17 نوفمبر، 2024 4:57 م
Search
Close this search box.

فيروز الأيقونة الحية

فيروز الأيقونة الحية

ليس للصوت الغنائي بصمة الا لصوتها فلا سبيل لتقليده ، فلكل صوت شبيه الا صوتها، لترابطه مع وجدان واحساس متفرد ، فان قلدت الصوت فلن يكون لك ان تستحضر الروح والوجدان والدافع . كان لكثير من المطربات و المطربين الكبار أثر واسلوب وطابع لاتخطئه العين ولاتتجاوزه الاذن ،ولكننا نتحدث عن أمر آخر خلط بالطرب والغناء والامتاع ، الهدف والوقار ، الصدق والوضوح ، والتطابق وراء الكواليس وامامها . لم تستغل وزنها للمرح او اللهو والتحرر كما فعلت كل المطربات عبر العالم والعرب وان في مرحلة عمرية واحدة على الاقل ، عداها !.
لم تتزلف للملوك ولا للساسة والأغنياء في اغنياتها الا للاوطان والشعوب والمدن . غنت لكل المدن العربية بحب ، وللمدن العالمية برقي وندية المتفضل وليس دونية المتطفل ، وزارت العواصم وكرمت فيها من الشعوب قبل الحكومات ، مطربة النخبة والعامة على حد سواء .
وجهها على المسرح هو وجهها في البيت والشارع ، هذا ان كانت اصلا تعرف كيف تتسكع في الشارع ،حملت هموم وطنها لبنان ودينها وفلسطينها ، لم تغادر ارضها مع المغادرين في ايام الحرب والظلام وقتال أخوة الوطن لبعضهم ، فصمدت سنين تحت خوف المدافع والموت حتى تجمّع حولها الفريقان المتخاصمان واجتمعا على محبتها .
أفضل من قرأ الشعر الفصيح من المطربات على مر العصور وربما المطربين ايضا . أيقونة حية تعيش بين ظهرانينا ،، وقار وجد والتزام ، ووجه صارم بسيط الابتسام ، عميق التفكير بعيد الشرود ، غنت للطبيعة بقدر غنائها للحب العذري المهذب . لم تستخدم صوتها ولا جسدها ولاعينيها للاغراء وليس تصلح له لتصميم فيزيائي بريء لجسدها ومحياه ، وليس لعطل في الجمال الذي حازت منه قدرا طيبا .
غنت للتاريخ ولليالي الألف وسحرالشرق في بغداد ، وألق الغرب في الاندلس وللطيور وللماء وللسماء وللبحر وللصيف والخريف والشتاء . فكنا نشم رائحة الخريف ونرى تساقط الاوراق في كلماتها ، ونحس ضباب الطرقات في الشتاء الموصوف حتى وان كنا في صيف قائض . انشدت للطفولة والقمر والعربات والطرقات ، بل وحتى للاسماء والابواب ، وللاشجار وطائرات الورق وللظفائر والخواتم . جعلت من تفاصيل حياتنا وصور ذكرياتنا اغنيات، تصوغ الكلمة نغما هادئا عذبا لا حاجة معه للاعادة والتطريب ، فطابعها التعبير ، فتؤثر في دقيقتين مايحققه غيرها في ساعتين ، أو قد يعجز عنه ! خلّدت مئات القصائد العربية ، الفصيحة والعامية ، وخلدها الشعراء بذكر اسمها في قصائدهم كرمز للمقاومة والحب والصباح !.
وصفت البنت التي تنتظر حبيبها والتي تودعه والحبيب الذي كتب القصائد لغاليته ايام الحصاد ، والمطر والمضلات والعشاق والرسائل والثلج والغابات والوديان . جسدت الحنين والشوق ورسمت سكون الليل واشراقة الشمس ورتّلت للكنائس والمعابد وثقفت للصلاة والتوكل والرضا . وصفت جمال المراة المصان العفيف ورسّخت القيم الراقية . غنت لمكة وللقدس ولكل دين ، وانتقدت السياسة وراقبتها ، خلّفت زياد الرحباني و مئات الاغاني ، كل منها امّا درس في العربية او ترسيخ لقيمة او تثقيف لحب طاهر لايلمح ولايوحي ، او وصف لمنظر او شعور لاينسى ، او لوعة تخفف او دعم لوطن محتل او لطفل يطلق حجارة على غاصبي ارضه .
فيروز،،،طهر الصوت وعفة الفن ورسالة الحب وقصدية الكلمات ، وعمق الأثر ورسوخ النغم الدائم والوان الطبيعة ، وحب الوطن ونعومة الانثى وصلابة الحرة ، وطرب الكريم وتفرد الموسيقى وثقافة المرأة ، ورمزية الابداع ،،الذي يتعاظم بالتقادم .

أحدث المقالات