18 ديسمبر، 2024 6:19 م

فى الطريق إلى إندونيسيا

فى الطريق إلى إندونيسيا

ربما لا يعرف كثيرون ماذا يجرى بالضبط فى إندونيسيا البلد الإسلامى الكبير، ولماذا يصر قادتها على التمسك بالنموذج المتسامح للإسلام؟
وكيف تحاول بعض الدول جرها إلى التطرف وحشرها فى مربع الإرهاب؟ وما هو الدور الذى تلعبه جمعية نهضة العلماء؟ ولماذا تصر بعض القيادات هناك على الاهتمام بمصر وتجربتها القاسية مع المتشددين؟

أسئلة كبيرة ومختلفة دارت فى ذهنى عندما سافرت إلى جاكرتا لأول مرة منذ عامين، وساعدتنى التجربة على فهم جوانب متعددة مما يدور فى هذه الدولة التى تربطنا بها علاقات تاريخية وثيقة، لذلك عندما تلقيت دعوة لحضور مؤتمر دولى خلال الفترة من 18- 20 مايو الحالي، ضمن اهتماماته مناقشة ملف التطرف والإرهاب، لم أتردد فى قبولها، خاصة أن الجهة المنظمة للمؤتمر (مجلس الدفاع الوطني) طلبت منى الكلام عما يحدث فى مصر.

بالفعل أعددت بحثا ألقيه ضمن الجلسة المخصصة لهذا المحور بعد غد السبت، أتحدث عن تفاصيلها لاحقا، لكن ما أريد التركيز عليه مقدمات الرحلة ومفارقاتها، فمنذ قبول الدعوة، ولم ينقطع التواصل معى فى كل كبيرة وصغيرة تقريبا، من القاهرة وجاكرتا.

مجلس الدفاع الوطنى فى إندونيسيا، لازمنى خطوة بخطوة، والعقيد جابينسون بوربا أمين المنتدى الجيوسياسي، الذى كان حلقة الوصل معي، أصبح عندى رمزا للانضباط، بدءا من حجز شركة الطيران التى أرغب فى استخدامها من القاهرة إلى دبى ومنها إلى جاكرتا، وحتى مقاس قميصي، ولهذه وتلك حكاية طريفة.

العقيد جابينسون خيرنى بين استخدام شركة الطيران القطرية أو التركية، فاعتذرت له دون توضيح السبب، وفهم ضمنيا الأبعاد السياسية، وبرر اختياره أن الطائرة فى كليهما لن تمكث طويلا فى فترة الترانزيت، لذلك فضل إحداهما لراحتى فقط، ولم يكن رفضى تعصبا أو تزيدا، لكن لعلمى أن هناك خطوطا أخرى قد تكون محببة وإن طال الترانزيت، فوافق الرجل على التغيير بسلاسة، ووجد شركة ثالثة قيل له أن البقاء فى دبى لن يستغرق أكثر من ساعتين، فقبلت وشكرته على تفهمه الموقف.

يبدو أن الشركة التى سافرت عليها أرادت أن تنتصر لسيادة العقيد، من حيث لا يدرى بالطبع، وعرفت بحدوث تغيير فى موعد إقلاع الرحلة من دبى لجاكرتا قبيل سفرى بساعات من القاهرة، وأننى سأمكث فى دبى 12 ساعة بدلا من ساعتين، نعم أمضيت هذه المدة فى فندق كبير، وتصورت أن لعنة جابينسون حلت علي، لكن الرجل ومعاونيه لم يتركونى لحظة، وحرصوا على التواصل معى حتى وصلت إلى جاكرتا، وهو ما جعلنى لا أشعر بالملل.

عندما فاجأنى جابينسون بالسؤال عن مقاس قميصي، اعتقدت أن هناك إجراءات معينة يجب أن تتبع مع الضيوف، كأن يتم ترتيب جلوسهم فى المؤتمر حسب الحجم أو الطول، لكن لم يطل تفكيري، وأخبرنى العقيد بأن هناك حفلا يحضره مسئولون كبار فى الدولة، والدخول بالملابس الرسمية، أى الزى التقليدى هناك، فارتاح قلبى قليلا، لأن الزى المزركش الذى أعرفه مقبول ولا يشبه زى السيدات كما يعتقد البعض عندنا، بمعنى ليس فيه ما يعيب الرجل.

اهتمام الجهة المنظمة لم يتوقف، حيث خصصت شخصا كضابط اتصال، بدأ بالفعل مهمته معى منذ أرسلت الموافقة على حضور المؤتمر، ويجيد العربية بطلاقة، وأخبرنى بأنه سيتولى الترجمة منها إلى الإندونيسية والعكس، وكان لطيفا للغاية فى جميع الاتصالات الهاتفية والرسائل الاليكترونية، التى تشعر فيها بالأدب الشديد المعروف عن الشعب، ولم تتوقف السفارة الإندونيسية فى القاهرة عن التواصل معى أيضا ومتابعة الرحلة وتذليل أى صعوبة تدور فى ذهني.

اقترب موعد السفر، ولم تطلب السفارة جواز السفر للحصول على تأشيرة دخول إندونيسيا كالمعتاد، وتصورت أننى سأحصل عليها ليلة السفر، كما حدث فى الزيارة الأولي، وقطعت الهاجس بسؤال مسئول فى السفارة الاندونيسية، وأبلغنى بأن السلطات عندهم ألغت التأشيرة لـ 169 بينها مصر.

قبل السفر بأيام قليلة، اتصلت بالسفارة المصرية فى جاكرتا من باب الاحترام والتقدير للسفير عمرو معوض، ولم يكن موجودا، فعاود الاتصال بى مشكورا، وعرفت أن لديه علما بتفاصيل المؤتمر الذى سألقى فيه المحاضرة، وكان الرجل مهذبا كعادة غالبية السفراء، وشدد على ضرورة أن نلتقى فى جاكرتا، ولم يتوقف أحمد عيد المستشار بالسفارة المصرية هناك عن متابعة رحلتي، وتذليل كل المطبات والتنسيق مع الجهة المنظمة.

الرحلة من القاهرة إلى جاكرتا مرورا بدبي، كشفت عن أهمية التكنولوجيا فى حياتنا، فمن خلالها تابعت زملائى فى قسم الرأى بالأهرام، وتواصلت مع أسرتى الصغيرة فى القاهرة، والجهة المنظمة فى جاكرتا، كما أن الوقت الذى أمضيته فى دبى مر بسرعة البرق، والتقيت عددا من الأصدقاء، عندما أرسلت رسالة قصيرة واحدة لأحدهم من المطار.

لم أكن مشغولا بالمؤتمر، فالورقة التى ألقيها تم إعدادها وترجمتها جيدا للإنجليزية، وأرسلت نسخة للجهة المنظمة، لكن انشغالى كان منصبا فى الطريقة التى أرد بها على الحضور المتوقع من قبل التيار الإسلامي، فهناك طيف واسع من الإخوان والسلفيين المتطرفين لديهم صورة زائفة عما يدور فى مصر، وقد واجهته فى المرة السابقة، ومعظم المعلومات التى ساقها أنصار هؤلاء وهؤلاء كانت مغلوطة وخاضعة لرؤية سلبية تروجها عن عمد قنوات الإخوان من تركيا والجزيرة من قطر.

عندما استشرت أحد الأشخاص العالمين ببواطن الأمور عن حضورى مؤتمر جاكرتا، شجع على تلبية الدعوة وعدد أهميتها، مع ملاحظة قال فيها “خذ حذرك ستواجه بتيار إسلامى متشدد له موقف سلبى من مصر”، بالتالى يجب أن تكون المعلومات جاهزة والرؤية الرصينة حاضرة ومنطقية، خاصة أن هذا التيار يلقى تعاطفا من بعض الجهات الغربية، التى تتعرض لدعاية مغرضة وتستجيب لها وتستقى منها معظم المعلومات.

هذه الكلمات كانت حافزا كبيرا لإعداد بحث يتناول الجهود التى تقوم بها الحكومة وأجهزة الأمن فى مصر لمكافحة الإرهاب والتطرف، وحجم التقدم الذى حصل، وطبيعة الهزيمة العسكرية التى منى بها تيار العنف فى سيناء وغيرها، ناهيك عن الخسارة السياسية الفادحة التى نالت تماما من شعبية الإخوان وأتباعهم من المتشددين، وكشف حقيقة خطابهم القاتم، لأننى أعلم أن الورقة ستقع فى أيدى كثير من الباحثين والمسئولين الأجانب الذين يشاركون فى مؤتمر جاكرتا.. وللحديث بقية.
نقلا عن الاهرام