23 ديسمبر، 2024 7:47 ص

فى الذاكرة العراقية

فى الذاكرة العراقية

ان ما يشير اليه الاستاذ كنعان مكية, الى اعترافه بالخطا واسفة للتعامل من الامريكان فى تقويض النظام الدكتاتورى لحزب البعث, واستلام نخبة فاسدة لامور العراق,ينطلق من ثقافة بعيدة عن ثقافتنا المعهودة التى تكاد لم تبتعد كثيرا عما كانت علية فى عقود سابقة, ربما يعود ذلك الى “ان العربى ابى كريم لا يعترف بالخطا” ولذلك فلا يوجد ما يدعو الى الاعتذار والاعتراف بالخطا وربما الخطيئة ايضا. ان اشكالية النخبة التى يعتذر الاستاذ مكية بسببها, يتقارب الى حدما مع الوعى العام الذى تبلور فى الشارع العراقى بشكل عام ولدى المثقفين النقديين بشكل خاص حول ثورة 14تموز (انقلاب)التى جاءت قبل اوانها ببضعة عقود, وانها قد حدثت نتيجة لخلق حالة من الاستقطاب السياسى القائم على تاجيج العواطف والمشاعر للشارع العراقى ضد النظام الملكى واتهامة بالعمالة للاستعمار والخيانة الوطنية. كان الحزب الشيوعى العراقى المسؤل الاول لهذه الحالة التى سيطرة فيهاالعواطف والمشاعر على التحليل العلمى فى تعامله مع الظروف والاوليات الموضوعية القائمة فى العراق طيلة سنين تشكيل الدولة العراقية ونظامها الملكى وسقوطها فى تموز 1958.
لقد استقبل الشعب العراقى الثورة بفرح كبير وامال عريضة, فى مستقبل افضل, خاصة ان قيادة الثورة قد شرعت قوانين وقامت بتنفيذ مشاريع فى تطوير منظومة البنى التحتية الضرورية فى فترة قياسية لم تكن مؤلوفة ابدا, الا ان “القوى السياسية” خاصة فيما يتعلق بالصراع حول السلطة والنفوذ بين القوميين /البعثيين والحزب الشيوعى العراقى اخذت فى تصاعد بشكل مستمر, وتطورعنها استعدادات هائلة فى استخدام القوة والعنف والاقصاء والاغتيالات التى كانت فى حقيقة الامر تمثل انعكاسا لهيكلية البناء الاجتماعى التربوى للعائلة والقبيلة والمجتمع بشكل عام فى تصوراته التربوية ونظرته فى استخدام العنف والقوة ضد الاخر والتأكيد على قضية” الغلبة”. من ناحية اخرى, بنفس الوقت, لم يكن عمر الدولة العر اقية وعمقها الحضارى واستقلاليتها فى القرار السياسى وضعف خبرة الطبقة السياسية نظريا وعمليا بالمبادىء والافكار والممارسات الديمقراطية, خاصة وانها لم تستطيع تعجيل حركة عملية تطوير قوى الانتاج فى مرحلة الاستقلال الوطنى وضرورات بناء الدولة والوطن, مؤهلة ان تفتح افاق جديدة تتجاوز فيها اطارالوصاية والسيطرة البريطانية على مجريات السياسية المجتمعية بشكل عام.ان هذه الشروط جعلت اتهام الحكومات العراقية التى تشكلت منذ قيام دولة المملكة العراقية وحتى سقوطها فى
14تموز 1958 جعلت عملية اتهام الحكومات بالعمالة والخيانة الوطنية تجد قبولا واسعا من قبل مختلف المكونات الاجتماعية /الاقتصادية للشعب العراقى.
لقد تفجرت صراعات عنيفة بين البعثيين والقوميين والشيوعيين وكلاهما ضد قيادة الثورة, بشكل او بأخر, هذه الصراعات كانت تمثل البداية لعقود لاحقة قد استفحل فيها استخدام العنف والارهاب من قبل الرعاع الذين اصبحوا النخب السياسية والتى صعدت الى قمة القرار السياسى ضد الذين يختلفون معهم بالراى والموقف. كانت الملامح الاولى فى الصراع بين البعثيين والشيوعيين ولاحقا فى الطريقة والاسلوب الذى تم به قتل الزعيم عبد الكريم قاسم مؤشرات مخيفة لما نحن عليه اليوم من فلتان للامن واحترام القانون وحماية الوطن والحرص على شعبة المعذب والمكتوى بنار الارهاب منذ بداية الستينات من القرن الماضى.
ان القتل والاغتيالات التى قام بها الحرس القومى عام 1963 تمثل تطورا هائلا فى طغيان العنف والذى اخذ شكله الرسمى حينما اعلن من محطة اذاعة بغداد التصفية الجسدية العلنية للشيوعيين, كما جاء فى بيان الحاكم العسكرى اللواء العبدلى والتى تعتبر ابادة بشرية بكل المعايير والتى لم يحصل لحد الان وقفة تاملية لها من اجل الدرس والذاكرة العراقية, من اى قوة سياسية وحتى منظمات المجتمع المدنى.
مع صعود حزب البعث الى الحكم فى تموز 1968 , خاصة بعد اخذ نجم صدام الصعود فى تركيبة النخبة الحاكمة, فقد اصبح العنف والقوة والارهاب منهجا اخذ تتكامل ابعاده مع الزمن والحاجة فى تكوين وانشاء مكاتب وهيئات مخابراتية وامنية وبوليسية فرضت جوا من القسوة والخوف والرعب ليس على المواطن العادى فحسب وانما فى داخل الحزب ومؤسسات الدولة والجيش بمختلف تنوعاتها وتخصصاتها.
ليس العنف والقوة والارهاب والقسوة ما يميز النخبة ونظام حزب البعث , وانما ايضا الوعى المنحرف والنرجسية وتضخم الشخصية والادعاء بالمعرفة والعبقرية وتجاوز التخصصات العلمية والادعاء بالسيطرة على مجمل العمليات الاجتماعية والاقتصادية والتمكن منها وادارتها بشكل اخذ فى حساباته اصعب الاحتمالات ووضع الخطط الكفيلة لتجاوزها والسير بالدولة والمجتمع الى الامام, ان هذا الوعى المنحرف الذي تميز به الجهلة والافاقيين والمثقلين بمركبات النقص, قد قادوا البلاد الى حافة الهاوية, حروب الخليج والحصار الاقتصادى الذى فرض على الشعب العراقى كانت نتائج لامراضهم الخبيثة وتفكيرهم المريض. انهم يؤكدون, زورا وبطلانا, ان جميع الامور تحت السيطرة!!
كان كثير من قيادى النخبة البعثية يقوم بزيارات لمؤسسات علمية وبحثية, الكليات والجامعة والمجمع العلمى العراقى ليتفقد العمل ويلقى “الاغا” “توجيهاته وافكاره فى اساليب تطوير العمل والسير بالثورة الى الامام.” وكانت هذه الزيات بغيضة للعاملين بشكل
عام, اللهم للقيادات الحزبية والانتهازيين تمثل فرصة ثمينة يقدموا فيها الولاء المتجدد والحرص على على اداء الواجب فى ارهاب وضبط المؤسسة التى يعملون بها.
اعتقد ان عددا من اساتذة الجامعات العراقية الذين كانوا حاضرون احتفالية جامعة بغداد بمناسبة تقليد “الرئيس القائد” صدام حسين الدكتوراه الفخرية. كانت الاجواء غير طبيعية ويسودها جو من الصمت والصرامة, ان الخوف, بل الرعب من ان ينزعج الرئيس القائد , لسبب ما, مهما يكن نوع هذا السبب, خاصة وهو لا يرتاح لمقابلة عددا كبيرا من حملة الشهادات العليا والذين لهم انجازات محترمة فى مجال تخصصاتهم, اناس لهم جغرافية وتاريخ, وبذلك يمكن ان تثار حفيظة القائد الضرورة والتى يمكن ان تثار لاتفه الاسباب, وبذلك تطاح عدد من رؤوس الاساتذة ورئاسة الجامعة. ان منظر صدام حسين فى الحفل يثير الاشمئزاز: التعالى والكبرياء فى جلسته, وجهه العبوس ونظرة الاستخفاف بالحضور والسيكار الكوبى بين “انامله الذهبية”, وحتى بالدكتوراة الفخرية التى تقدمها له اعرق جامعة عراقية فى الدولة العراقية, توحى بانه يخاطب الجامعة والاساتذة الحضور بهذا التساؤل: من انتم ان تقلدونى هذه الدكتوراه, انتم من صناعتى , انا ولى امركم, انا ربكم الاعلى. ولسان حاله يقول: انا الوحيد الذى يتمتع بهذا الحق والافضلية فى منح الشهادات والجوائز لكم والاخرين. الا ان المعاصرون لصدام ونخب البعث حينما كانوا يسجلون فى الكليات المسائية للحصول على شهادة جامعية, واذا قدر ان دخلوا الامتحانات فقد كان المسدس يحضر معهم ويوضع على طاولة الامتحان.
احتفظ فى صورة اخرى للتعرف عن قرب باحد قيادات حكم البعث الذى زار كليتنا, كلية الاداب جامعة بغداد فى باب المعظم, وكلية الاداب هى اكبر كلية فى جامعة بغداد ويعمل بها حوالى 300 استاذ من بينهم شخصيات لها فكر ونتاج علمى واخلاق. جاء نائب رئيس وزراء النظام “طه الجزراوى” فى زيارة لكلية الاادب /جامعة بغداد, وكان حضور اساتذة الكلية واجبا الزاميا لا يمكن تجاوزه ابدا, والا فان المتجاوز يمكن يعرض نفسه لقضايا هو فى غنى عنها ويمكن ان تكلفة مستقبله. كان حوالى 300 استاذا حاضرا جلسة نائب رئيس الوزراء. بدأ حديثة عن مهمات الثورة والانجازات الكبيرة التى قام بها الحزب بقيادة الرئيس القائد صدام حسين, والتى قد وضعت البلد فى مصاف الدول المتقدمة, بالاضافة الى الوضع المعيشى المتطور وزيادة الرواتب للموظفين والمتقاعدين, واضاف القول بان الطريق طويل ويتطلب منا جميعا التكاتف والعمل سوية فى مجابهة المخططات الاستعمارية التى تحاول الرجوع بعراق الثورة ثانية الى الوراء, واكد بان هذه المخططات سوف يكون مصيرها الفشل وسترمى فى مزبلة التاريخ, ان الحزب بتنظماتة القوية وانضباطية اعضائه وجيشنا البطل سوف يحطم كل المؤمرات التى يخطط لها الاستعمار, اننا على علم بماذا يفكرون وكيف يفكرون, ونحن لهم بالمرصاد. ان الشىء المثير فى مثل هذه القيادات ان تسترسل فى الكلام, وكما يبدو فانها تجد اللذة ليس فقط ان يفرض على
من هم على علم وفير, وانما فى سماع صوتها ذاتيا, حيث تبدو لهم ذو رنين والحان سحرية. واخيرا فتح باب النقاش والاسئلة والاستفسارات, وهذه تمثل فرصة اخرى للتاكيد على المعرفة العلمية العميقة بخفايا الامور, وهى فرصة اخرى لضعفاء النفوس ان يقدموا اسئلة استيحائية تافة ليشيروا الى انهم موجدين ايضا, اما الحزبين فهذا امر اخر, ما عسى ان يفعلوا, بعدما تخلوا عن حرياتهم وامكانية التفكير الهادىء المستقل.
واخير قدم احد الاساتذة الحديثى العهد بمداخل السياسات الحزبية, وبعد الاشادة بالثورة والحزب القائد والرئيس القائد المفكر , هذه المقدمة لابد منا والا فان اصابع الاتهام سوف تكون صارمة, وجاء السؤال, من ان حكومة الثورة قد طرقت ابوابا واسعة فى التنمية والبناء, الا ان الشركات التى قامت بالدراسات والتصميم كانت شركات اجنبية, من اوربا الغربية, وكانت الشركات المنفذة غالبا من دول اوربا الشرقية وكوريا الجنوبية.. ان البلد سوف يتعرض الى خطر كبير فى حالة حول خلافا مسلحا مع الاستعمار, فان هذه الشركات سوف ترضخ امام ضغوط هذه الدول وتعطى بشكل مفصل بيانات عن المشاريع التى قامت بتنفيذها. وكالعادة, فقد شمر نائب رئيس الوزراء وقائد الجيش الشعبى عى ذراعه ولسانه وقدم الخطط والعمليات الاحترازية الى قامت قيادة الحزب والثورة باتخاذها فى حالة الاعتداء المسلح, اننا واعون للامور وكل شىء تحت السيطرة!! انهم لم يعوا شيئا, انهم يدعوا الوعى ولم يصمموا اى خطة احترازية.
حينما بدأ الائتلاف الامريكى الغربى بضرب المدن والمنشات العراقية, كانت تاكيدات وخطط قيادة البعث, قيادة النمور الورقية, لا تساوى شيئا وذلك لعدم وجود خطط اصلا. كانت ضربة “ملجأ العامرية” مبنية على تفاصيل دقيقة قد سلمتها الشركة السويدية المصممة والمنفذة لمشروع ملجأ العامرية الى الامريكان, ولذلك كانت ضحايا الابرياء كبيرا جدا, وكذلك كانت ضربة بناية “القيادة القومية ” محكمة ايضا, وذلك لا ن الشركة اليوغسلافية المنفذة للمشروع قد سلمت خرائط البناية للامريكان ايضا. ان دمار الحرب التفصليى هو ايضا من نتاج الوعى المنحرف والعقلية التافة لزمرة الاباضايات والاشقيائية الذين حكمواعراقنا الكبير وعاثوا به فسادا ودمارا.
ان التاكيد على الاحداث والجرائم التى قامها بها الحزب ككل كتنظيم للدولة, لايقل اهمية عن الجرائم التى اقترفتها النخب البائسة طيلة سيطرتها على الحكم فى العراق. ان الاجيال القادمة يجب ان تكون على معرفة دقيقة بنوع السياسات ونوع السلوك والتفكير الذى كانت نخب البعث تنطلق منه . اما عن المرحلة الراهنة, نظرا لما ارتبط بها من العجائب والغرائب واللامعقول ومعاداتها للعقل والعلم , بالاضافة الى النخب البائسة التى جاءت مع دبابة المحتل, انها تستحق مقالة كبيرة مهمةو سوف نأتى لانجازها لاحقا.