كان أحد الذين تحوم الشكوك حول إصابتهم زميلا لي في الدراسة الثانوية! لم ألتق به منذ عشرة أعوام.. ها هو أمامي كطير حجل تهشم جناحه بطلقة عابثة .. كان يسند ساعده الأيسر بكفه اليمنى وقد حل محل آلامه الرعب! اقتضت الأوامر بنقل أولئك العشرين جريحا الى مركز الشباب في الجانب الاخر من دجله.. كان المركز قد أعد مسبقا وجعل منه مركز إسناد طبي.. تم تأمين حراسة مشددة مكونة من عناصر أمن الفيلق.. كانت الإستفسارات تأتي متلاحقة عن حالة أولئك الجرحى من مقر قيادة الفيلق.. نقل إلينا بأن السيد قائد الفيلق يلح على معرفة النتيجة لكي ينفذ الإعدام ميدانيا بحقهم كمتخاذلين.. لقد سمعنا عن الكثير من عمليات إعدام نفذت بحق جنود وضباط كبار وقادة عقب معارك خسر فيها وأخري انتصر جيشنا لكن ذلك لم يحد من عمليات إعدام قد نفذت بحق هؤلاء لأسباب شتى تطايرها (ضرورة إدامة العزم وروح الفداء)!!
مررت بسقيفة الشهداء قبل أن أستقل العجلة متجها الى مركز الشباب.. صاح ورائي ضابط التوجيه السياسي لكنني أصريت على ذلك.. قلت له حين وصلنا هامسا ومجيبا عن استفساره: أردت فقط أن أقوي من عزيمتي قبل اتخاذ القرار!
بلغ عدد الشهداء في اليوم الثالث ما يقرب من الثلاثة الاف شهيد .. كانت سقيفة الشهداء متخمة .. كانوا ممددين على البلاط في سطور متوازية كأنهم طيورا برية مذبوحة سطرت بعد اتتهاء رحلة صيد عابثة.. امتلئت ثلاجات حفظ الجثث و وضعت الأخري على أرضية السقيفة .. كان بعضها متفحما لكنها احتفظت بحالة التشنج التي ترافق الإصابة.. رأيت رفات جندي رافعا ذراعه ويؤشر بسبابته نحوي وكأنه يتهمني!! تخيلت أنه يشير لي.. إنتابتني قشعريرة جعلتني أشيح بوجهي خجلا.. سارعت بمغادرة السقيفة ورميت بجسدي متهالك بجانب ضابط التوجيه السياسي الذي سبقني بفتح باب العجلة وأمسك بذراعي وهو يساعدني بالصعود.. انطلقت بنا العجلة نحو مركز الشباب.. قمنا بفحص المصابين واحدا واحدا بدقة.. كانت كل الدلائل تؤكد عملية إيذاء النفس المتعمد.. حروق في الملابس عند دخول الإطلاقة، وجود وشم بارودي واضح في المداخل ومخارج نجمية الشكل!! اتجاه الإطلاقة من اليمين الى الشمال ومن الأعلى إلى الأسفل، تخريب نسيجي شديد وكسور في الأطراف، والأكف اليسر… كنت أناقش زميلي الطبيب ضابط التوجيه السياسي باللغة الإنكليزية، وكان الرجل يشاركني شعوري المرتين والحذر ومحاولاتي اليائسة في إنكار تلك الحقائق.. قفز أحد الجرحى بعيدا عنا .. كان خريجا جامعيا ويؤدي الخدمة الإلزامية .. أخذ يلقي خطبة وكأنه يقف على خشبة مسرح!! وقف في حالة الإستعداد .. صرخ بصوت عال : إني الجندي المكلف قوات خاصه محسن امطشر المنسوب الى اللواء ٦٦ قوات خاصه البطل.. كان اشتباكا قريبا ذلك الذي أصبت فيه لكنني ونزولا عند رغبتكم أيها الرفاق ورغبة السيد قائد الفيلق أعلن بأنني قد أطلقت النار على قدمي متعمدا وأستحق الإعدام… أردف بصوت متشنج عال وبحركة هستيرية : يعيش القائد صدام حسين يا… يسقط قائد الفيلق يا ..سارع عناصر الإستخبارات وأمسكوه وهو يرتعد.. أبعدوه الى غرفة مجاورة ..
اجتمعت اللجنة وقمنا بإملاء نتيجة الفحص الطبي على النائب الضابط الكاتب: نضرت طويلا في عيني ضابط التوجيه السياسي، شعرت أنه قرأ أفكاري فأومأ إلي إيجابا فأكملت : وبناء على ذلك نرجو التفضل بمخاطبة مستشفى الرشيد العسكري لتنسيب ضابط طبيب اختصاصي بالطب العدلي للإنضمام الى اللجنة للبت في ذلك……!!!!
يتبع