عندما اقتحمت قوات الاحتلال الامريكية بغداد قبل اثنتي عشرة سنة توقع الكثير من العراقيين ان يحدث في البلاد تبدل جوهري ايجابي يفتح افاقا جديدة وفق انماط عصرية ، ولكن الغزاة تقصدوا اشاعة الفوضى بانواعها ـ فوقفوا يتفرجون على فوضى النهب والسلب ، وجاء بريمرهم فالغى الجيش العراقي فنهب الناس الاسلحة وباعوها على الارصفة ، والغى وزارة الاعلام فصار الاعلامون يتسكعون في الشوارع بلا عمل ، وجاءوا بحفنة من سياسيي المهجر – معظمهم من مزدوجي الجنسية – ورتبوهم في مجلس حكم بصيغة وتركيبة غامضة واهية ، وشكلوا حكومة فيها لكل وزير عراقي وزير ظل اجنبي باسم مستشار، ووجد السياسيون العراقيون القادمون من المهجر – وخاصة هواة السياسية – فرصا لا تنظب للثروة بعد ضنك وعوز ، واصبح العراق من ابرز دول العالم في الفساد واستمرار الخراب وانعدام الاصلاح وتعطل الاجراءات ،وفشلت الحكومات المتعاقبة حتى في حل المشاكل الاجرائية التقليدية فعجزت مثلا لسنوات في تغير ارقام السيارات او تجديد تراخيص اجازة السوق ، وحنى الان يتجادلون حول النشيد الوطني والعلم ـ ولشك الحكومة في الوثائق التي تصدر عنها ومعرفتها بانتشار الفساد والرشوة اضافت الى اجراءاتها الروتينية اجراء سمته “صحة الصدور ” لكل وثيقة تصدر من اية دائرة حكومية باعادة الوثيقة الى الدائرة الصادرة عنها لتؤكد ان هذه الوثيقة صحيحة وصادرة عنا … و..و… !!!!
وعمت البلاد فوضى سياسية عارمة من محترفي السياسة الجدد يتصارعون على فرص الحكم لانها فرص للمكاسب .. ورافق هذه اللوحة الهلامية لاوضاع العراق بعد 2003 فوضى اعلامية يصعب الفرز بين تفرعاتها ، .. اهي فوضى اطلاق القنوات الفضائية الغامضة الانتماء والتمويل ؟ اهى فوضى المضامين والسياسات ؟ اهي فوضى العلاقة بين الاعلام والجهات الحكومية ؟ اهي فوضى الانتماءات واللولاءات ؟ ام فوضى الصياغات والتعابير والمصطلحات ؟ ام هي الفوضى المهنية وتفاوت المهارات التنفيذية وغياب التخطيط ؟
هذه الاشكاليات وغيرها ، تتداخل بعضها ببعض لتصبح جبلا من الهموم الاعلامية ، والتي يصعب على معظمنا ان يضع لها تسلسلا من حيث الاهمية ، فبرز امامنا فوضى الخطاب الاعلامي من حيث المضمون والصياغة وحتى اختيار المفردة وانحياز الفضاءيات الواضح الى الجهة المالكة والممولة ، ومما يزيد الموضوع ارباكا ان الاحزاب او الجماعات السياسية التي تنتمي اليها تلك الفضائيات لا تملك مناهج او خططا سياسية معلنة يهتدي بها العاملون في المؤسسات الاعلامية ، لذا هم يعملون ضمن تخمينات عن توجهات تلك الجهات السياسية التي تنتمي اليها المؤسسة الاعلامية … ولضمان انتماء وولاء تلك الفضائيات والسلامة الفكرية او المذهبية التي تريدها ، نصبت على ادارتها اشخاص مخلصين وموثوقين سياسيا وفكريا ، ولكنهم في الغالب غير اعلاميين !!
ومع كثرة الفضائيات الجديدة ظهر نقص حاد في المهارات التقنية والمهنية ، فاستعانت القنوات بانصاف المحترفين لشغل اية مهنة تحتاجها ، فتسلق الكثير من الهواة والمبتدئين وغير المؤهلين ، وشاعات الفوضى المهنية ، ومعها فوضى الاجور التي لا تتناسب مع حجم العمل والمهارة ولا المؤهلات العلمية.. وعمدت الكثير من الفضائيات التي تتلقى تموليا ودعما غامضا ، الى دفع اجور سخية كي ” تغوي” من القنوات الاخرى المهارات،… وقد انعكس ذلك سلبا على جودة العمل ، فساد الاستخفاف بالصنعة والمهنة ونشأت طبقة من ممارسي المهن الاعلامية / التلفزيونية بالذات / دون قاعدة علمية تخصصية .. انها طبقة جديدة
اعتقد انها ستعاني من البطالة اذا تقلص عدد الفضائيات بانحسار التمويل بعد انتهاء مهماتها السياسية المرحلية
وتجدر الاشارة الى فوضى الخطاب السياسي الذي اثر سلبا على الخطاب الاعلامي ، واعني التصريحات المتناقضة لاعضاء الكتل السياسية ، والمبنية على تخمينات وتصورات واجتهادات ربما حتى مزاجية او كيدية .. تصريحات وتحليلات بالرفض اوالقبول ،!! وتلجأ وسائل الاعلام الى صياغة خبرية تربك المتلقى حيث تنسب في العناونين التصريح الفردي الى الكتلة او الحزب ، وعندما نقرأ متن الخبر نجد ان الذي قال ذلك سياسي او نائب هامشي وليس تصريح او بيان رسمي للكتلة او الائتلاف … وهذا تزوير .. بل تضليل للمتلقي !!