23 ديسمبر، 2024 9:16 ص

فوز ترامب: نهاية عصر الليبرالية وبداية عصر القومية الشعبوية

فوز ترامب: نهاية عصر الليبرالية وبداية عصر القومية الشعبوية

بادئ ذي بدأ يجب أن نتطرق إلى بعض المصطلحات، من حيث الفكرة والتطبيق، وسنأخذ مصطلحين متداخلين، هما العلمانية والليبرالية، ما لهما وما عليها، حتى نصل إلى توقع بل قراءة نعتقدها صحيحة تنبأنا بنهاية عصر الليبرالية، وظهور عصر جديد، عصر القومية الشعبوية…
التعريف الأول لليبرالية:
هي فلسفة سياسية أو رأي سائد، تأسست على أفكار(الحرية والمساوة)، تشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حين أن المبدأ الثاني(المساواة) يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية؛ تبنى الليبراليون مجموعة واسعة من الآراء، تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين، ولكن بصفة عامة يدعم الليبراليون أفكار مثل: حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية الأديان، السوق الحر، الحقوق المدنية، المجتمعات الديمقراطية، الحكومات العلمانية والتعاون الدولي.
التعريف الثاني:
هي حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، و تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع و يتم تحجيمها من خلال القوانين و التشريعات الخاصة بكل مجتمع حتى لا تتسبب في حدوث اي فوضى، فالليبرالية غير مرتبطة بالدين بقدر ماهي مرتبطة بمعنى الحرية ، لإن تكون ملحداً او مسلماً او مسيحياً او يهودياً فهذا شأنك و سوف يحاسبك عليه ربك طالما انك لا تخرج عن حدود القوانين و التشريعات و لا تأذي غيرك، فهناك مسلم ليبرالي او مسيحي ليبرالي او يهودي ليبرالي كل وفقاً لعقيدته.
التعريف ثالث:
هي منهج مبني على أن لا توجد حقيقة قطعية، ويمكن أن تكون منهجاً سياسياً أو إقتصادياً أو إجتماعياً أو فكرياً عاماً، وهي بذلك تخلف ورائها حالة فوضى، فوضى فكرية، فوضى أخلاقية، فوضى اقتصادية.
فالفكرة في حقيقتها تقوم على ما يعرف بـ”الفوضى الخلاقة” أو “البناءة”.يعني اذا تركت الدولة الإقتصاد لأدوات السوق والعرض والطلب، بدون أي تدخل أو توجيه حكومي، عندها يحصل توازن طبيعي “الرأسمالية”، وكذلك إذا تركت الأفكار تطرح بحرية، تتكون حالة من الابداع “الحرية الفكرية”.
برزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي، رفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك الوقت من امتياز وراثي، دين دولة، ملكية مطلقة والحق الإلهي للملوك، غالباً ما يًنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليد فلسفي مميز، جادل لوك بأن كل إنسان يملك الحق الطبيعي في الحياة، الحرية والملكية، وأضاف أن الحكومات يجب ألاّ تنتهك هذه الحقوق، وذلك بالاستناد إلى العقد الاجتماعي.
وفق التعريف الثالث، فأن الاقتصاد الحر أدى إلى إنهيار الاقتصاد الأمريكي عن رمته عام 1929. مما أدى إلى سيطرة الفكرة الاشتراكية على العالم، لولا أن تم تدارك الوضع، من خلال التدخل المباشر من الحكومة الأمريكية، عن طريق ما يعرف بـ”الهندلة”، كأداة لتحريك الأقتصاد من حالة الركود، وكذلك شهدنا منذ قريب إنهياراً آخراً، وتدخل آخر من قبل الحكومة الأمريكية لتدارك الاقتصاد. أما من الناحية الفكرية أي”الحرية الفكرية”، أدت الليبرالية إلى حدوث الثورة الجنسية، التي اشتعلت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
طبعاً المسلم اذا نادى بالليبرالية، قد يكون يقصد ليبرالية مقيدة، فهو يقيد الليبرالية بقيد(الشريعة) وهذا يعني العودة إلى التعريف الثاني.
يعارض الليبراليون المُحافَظة التقليدية، ويسعون لإستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق، في الحكومة بـ(ديمقراطية تمثيلية) وسيادة القانون، لذلك إستخدم الثوريون البارزون في كل من الثورة المجيدة، والثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، الفلسفة الليبرالية ليبرروا الإطاحة المسلحة، لما رأوا أنه حكم استبدادي، بدأت الليبرالية بالانتشار بسرعة، خاصةً بعد الثورة الفرنسية.
شهد القرن التاسع عشر تأسيس حكومات ليبرالية في دول أوروبا، أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، في هذه الفترة، كان الخصم الأيديولوجي المهيمن لليبرالية الكلاسيكية هو المُحافظة، ومع ذلك نجت الليبرالية من تحديات أيديولوجية كبرى من معارضين جدد مثل: الفاشية والشيوعية.
خلال القرن العشرين، إنتشرت الأفكار الليبرالية أبعد من ذلك، حيث وجدت الديمقراطيات الليبرالية نفسها على الجانب المنتصر، في كلتا الحربين العالميتين، ولذلك ففي أوروبا وأمريكا الشمالية، أصبح تأسيس الليبرالية الاجتماعية، عنصراً رئيسياً في التوسع في دولة الرفاهية.
يتضح لنا الآن أن الليبرالية منهجاً عاماً أو منهجاً خاصاً…
العلمانية:
بإختصارٍ، هي تعني فصل الدين والمعتقدات الدينية، ليس عن السياسة فقط، بل عن الحياة عموماً، وعدم الإيمان بالمعتقدات الدينية، و تفسير الكون والحقائق الكونية بناءاً على حقائق علمية ثابتة، بصورة دنيوية بحتة، بعيداً عن الدين، فالدنيا هي العالم الوحيد بالنسبة للعلمانية، ومن هنا استخدم مفهوم “الدنيوية” كمرادف للعلمانية، ومن العلمانية اشتق فعل “العلمنة” ليدل على عملية التحول نحو هذا العالم.
العلمانية الليبرالية:
هو الاعتقاد بفصل الثقافة والسياسة عن الدين، فهي قسم متفرع من الليبرالية والعلمانية، وهي تدعم فصل الدين عن الدولة، التي بدورها ستخضع لمؤسسات لا دينية، فالمُثل الدينية تقع دائمًا على الطرف المعاكس لليبرالية العلمانية، وترتبط الليبرالية العلمانية عادةً بـ(المساواة الإجتماعية والحرية).
الآن نصل إلى نتيجة معينة:
العلمانية تسيس بالثقافة الدنيوية، أما الليبيرالية تسيس بأي ثقافة، دنيوية كانت أم دينية، شرط عدم التعارض مع حرية الشخص، فتقف عند حرية الآخر في الخاص و الفكر و المعيشة و الرأي.
العلمانية الإيديولوجية، أشمل من العلمانية السياسية، لأن الأولى تقصي الدين تماماً، بينما الثانية تحصر دور الدين، أما الليبيرالية لا تقصي الدين ولا تحصر دور الدين مادام الحريات الأربعة(الفردية, الفكرية, الاقتصادية و السياسية) مكفولة.
القومية:
لم تعرف القومية نظرياً، بمعناها الحديث إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وتطورت في القرن التاسع عشر، لدرجة إنشاء دول على أساس الهوية القومية.
قبل ولادة عصر القوميات بنيت الحضارة على أساس ديني لا قومي، وسادت لغات مركزية، مناطق أوسع من أصحاب اللغة، مثلاً: كانت الشعوب الأوروبية تنضوي تحت الحضارة المسيحية الغربية، وكانت اللغة السائدة في الغرب هي اللغة اللاتينية، بينما سادت في الشرقين الأدنى والأوسط، الحضارة الإسلامية واللغة العربية، وفي عصر النهضة تبنت أوروبا اللغة اليونانية القديمة والحضارة الرومانية، بعد ذلك احتلت الحضارة الفرنسية المكان الأول لدى الطبقة المثقفة في أوروبا كلها، ومنذ نهاية القرن الثامن عشر فقط، أصبح
المنظار إلى الحضارة هو المنظار القومي، وأصبحت اللغة القومية وحدها هي لغة الحضارة للأمة لا سواها، من اللغات الكلاسيكية أو من لغات الشعوب الأكثر حضارة.
ثمة تعريفات ونظريات عدة لمفهوم القومية، ابرزها ثلاث نظريات:
الاولى:
القومية على أساس وحدة اللغة: وتسمى النظرية الألمانية بسبب المفكرين الألمان، الذين كانوا أول من أشار إليها، ويستند أنصار الوحدة اللغوية، إلى مثل الوحدة الألمانية والإيطالية واستقلال بولونيا، وفي المقابل قامت اللغة بدور أساسي في انهيار الدولة العثمانية والامبراطورية النمساوية، فانفصلت عن الأولى كل الشعوب التي لا تتكلم التركية، وعن الثانية كل الشعوب التي لا تتكلم الألمانية.
الثانية:
القومية على أساس وحدة الإرادة(مشيئة العيش المشترك): أول من دعا إليها إرنست رينان، في محاضرته الشهيرة في السوربون سنة 1882، بعنوان “ما هي الأمة”؟ تقول النظرية أن الأساس في تكوين الأمة، هو رغبة ومشيئة الشعوب في العيش المشترك، بجانب التراث والتاريخ.
الثالثة:
القومية على أساس وحدة الحياة الاقتصادية: تقف الماركسية على رأس هذا التوجه، فترى هذه النظرية أن المصالح الاقتصادية والتماسك الاقتصادي، تكون أقوى الأسس في وحدة الأمة.
خلاصة البحث: قراءة في المشهد السياسي العالمي…
في مقالي السابق(حكومة النساء وصراع الرئاسة الأمريكية)، أوضحتُ رأيي بأن بريطانيا هي المحرك الأكبر، إن لم يكن الأوحد، في تغيير سياسات العالم، وبعدما ظهر بوتين بصفة القائد القومي للروس، ثم تبعهُ أردوغان، وجائت المفاجئة بإنسحاب بريطانيا من الأتحاد الأوربي، إتضح الأمر للشعب الأمريكي في الظاهر، ولمهندسي السياسة الأمريكية في الباطن، أن إتجاه السياسة العالمي بدأ يتجه إلى القومية، وأن الليبرالية وعصرها إنتهت تماماً، فكان لابدّ من وصول ترامب إلى الحكم، والذي سيعمل وفق هذا الأتجاه الجديد.
إن فوز ترامب مؤشر تحول المجتمع الغربي، من الديمقراطية الليبرالية إلى الديمقراطية القومية، فوعود ترامب: أن يعيد لأمريكا مكانتها، جعلت العمال المنضوين في النقابات المهنية، الذين تلقوا ضربة موجعة، بسبب تراجع المشاريع الصناعية، يصوتون له؛ وهذا الشعار دليل المنهج القومي لترامب.
بقي شئ…
أتمنى على الساسة في بلداننا أن يعلموا أن صراع العروش قد بدأ، فليستعدوا وليتوحدوا…