لا يجوز للسيد نوري المالكي أن يفاجأ بما يجري اليوم في العراق , فقد سبق ومنذ العام 2007 أن نبهه كثيرون إلى عوار الدستور وعيوب العملية السياسية و ممارسات أهل السلطة وهي كلها ألغام قابلة للانفجار في أية لحظة لتطيح بوحدة البلد وتنذر بتمزيقه حصصاً على دول الاقليم القوية ؛ ففي الأسابيع الأولى لتوليه المسؤولية التقى المالكي بوفد يمثل أعيان وشيوخ عشائر العراق المقيمين في الأردن وذلك في إطار دعوته للمصالحة الوطنية , وقد طالبه الوفد بإخلاء العراق من قوات الاحتلال ومن الميليشيات المسلحة معاً , و تلخص ردّ المالكي بأنه لولا خشيته من انتهازية الميليشيات لأعلن أن المقاومة ضد الاحتلال حقّ شرعي , ثم تعهد بأنه سيجنّد كل القوات العراقية المسلحة للقضاء على هذه الميليشيات واصفاً قتلى الدولة بشهداء مثواهم الجنّة , و متوعداً قتلى الميليشيات بجهنم وبئس المصير !
وقيل بعدها للسيد المالكي في مناسبات عدّة أن الشيء الوحيد العابر للطائفية في العراق الجديد هو الفساد , وأن استئصاله ذا أولوية قبل البدء في بناء البلد , وباعتباره زعيم حزب الدعوة فإنه يتعين عليه البدء بتطهير هذا الحزب من قيادات فاسدة يشار إليها بالبنان وقد طاحت بالبلد ترتشي وتنهب المال العام , وذلك حتى تتعزز مصداقيته ويلاقي التجاوب الشعبي عندما يتصدى للفاسدين من بقية الأحزاب و الطوائف الأخرى , و قيل له أيضاً أن الارهاب واحد وإن اختلفت مذاهب أهله , و يتطلب تعزيز الوحدة الوطنية التعامل مع الارهابيين بمعيار واحد , فلا يجوز التنكيل بالارهاب السنّي وغضّ النظر عن الإرهاب الشيعي , وأن خطر أبي عمر البغدادي وعلي الجبوري ليس أهون من خطر مقتدى الصدر وقيس الخزعلي , وأن المرجعية الدينية وبالشواهد لا تعترض على الخلاص منهم جميعا , وأنه لا يُعقل السماح لهيئة المساءلة والعدالة أن تستخدم المعيار الطائفي لإذلال عراقيين أفنوا شبابهم وكهولتهم في خدمة بلدهم وشعبهم , بل إنه لا يجوز أخلاقياً تسليم مؤسسة على هذا القدر من الخطورة لعناصرموتورة على شاكلة أحمد الجلبي أو علي اللامي رحمه الله .
وعند زيارته لسوريا سمع المالكي من الرئيس بشار الأسد رأياً ومؤداه أن الدين جزء من ثقافة المجتمع وهو صلة الوصل المتاحة بين الأرض والسماء , لكنه لا يعبّر عن هوية الشعوب والأوطان وأن دمجه بالسياسة سينتج مزيجاً متفجراً , وضرب له الرئيس الأسد أمثلة عن بلدان ضاعت بسبب تسلّط الدين السياسي على مقدراتها مثل يوغوسلافيا و أفغانستان ولبنان , ولعلّ الرئيس السوري تحرّج وقتها من ضرب ايران وغزّة كمثالين , كما أن مهزلة ما سمّي بالربيع العربي لم تكن قد بدأت فصولها لتعزز وجهة نظر الرئيس السوري .
وعلى وجه اليقين قرأ السيد المالكي تقارير رفعتها إليه أكثر من جهة حكومية تضمنت وقائع وأسماء تشير إلى فشل وزارة الداخلية في لجم إجرام منتسبيها وولوغهم بدماء وأموال الناس , و قصصاً بلا عدد عن معتقلين برّأهم القضاء لكن الشرطة ترفض إخلاء سبيلهم بدون أتاوة , وعن نساء مرتهنات في السجون بدل رجالهن الفارين من وجه السلطة ؛ وفي مناسبات كثيرة كان آخرها قبل أسابيع , قيل للمالكي أن أوضاع العراق لا تحتمل طغيان لون طائفي على آخر , ولا حتى تعسف دين على آخر حتى لو لم يكن سماويا لأن ذلك من شأنه كما تقول عبَر التاريخ انكشاف الأمن القومي العراقي وفتح ثغرة تتسلل منها المطامع الأجنبية , وأن الطقوس الطائفية باتت تشلّ عمل الدولة ومؤسسات العلم والإنتاج , بل أصبحت تجري بحماية الأجهزة السيادية وباستخدام إمكاناتها , ثم تفاقم الأمر بامتدادها إلى صفوف القوات المسلحة التي يُفترض أن تكون عنواناً للوحدة الوطنية وبعيدة عن الانحيازات السياسية والتعبيرات الطائفية !
وفي لقاء مطول مع الدبلوماسي المخضرم عدنان الباجه جي سمع السيد المالكي تحليلا معمقاً عن الموقع الجيوسياسي للعراق , وأن انتماءه العربي لم يكن نزوة من أنظمة سابقة بل هو ضرورة تفرضها مصالح العراق ومطالب أمنه خاصة وأنه يتوسط دول اقليمية طامحة تجد في التباين المذهبي للشعب العراقي ثغرة اختراق , وأن الساسة الأكراد باتوا اليوم قوة مستقلة لها ارتباطات ومصالح قد تتعارض مع المصالح العليا للعراق , وأنه إذا لا يوجد حتى الآن قرار دولي يتيح لهم الانفصال فيجب استغلال الوقت وتكوين تحالف عراقي شامل أساسه العروبة يرتكز على محافظات الجنوب ومعها الموصل وصلاح الدين وديالى , وبدبلوماسيته التي صقلتها عقود طويلة من العمل السياسي , نوّه السيد الباجه جي إلى ضرورة التوجه نحو القيادات الوطنية المخلصة التي تعالت عن خيانة بلدها مقابل عقود مقاولات مع الاحتلال الأميركي , أو تلك التي تبتز السلطة العراقية منذ عام 2005 تحت تهديد إثارة القلاقل في مناطقها , بل إن بعض هؤلاء هدد برقاعة على شاشات الفضائيات بإعلان الكفاح المسلّح !
………………………….
قد يكون من قبيل التعجيز أن نتوقع من السيد المالكي ما لا يطيق ولا تتحمله الظروف التي تكوّن فيها وعيه السياسي , فالرجل أمضى نصف سنوات حياته لاجئاً في سوريا منغمساً بالعمل السّري وأجوائه التآمرية , و كانت من المهمات الموكلة إليه في سنوات لجوئه السوري الاشراف على نشرة ” الموقف ” المعبّرة عن أفكار حزب الدعوة , ومن قرأ تلك النشرة يكتشف على الفور أن المالكي وحزب الدعوة لم يكونا معنيان بقضية الحرية السياسية في العراق , ولا بفردية القرار السياسي و بشخصنة السلطة والصبغة العائلية للنظام , بل كانت مشكلتهما الرئيسة معه فقط أنه ينتمي إلى الطائفة السنيّة و أن بديله المفترض هو الوليّ الفقيه !
وإذا كان المالكي عاجزاً عن اختراق الشرنقة الطائفية التي عاش فيها جلّ سنوات حياته , وإذا كان أضعف من كبح فساد حزب الدعوة , وإذا كان قد تسلّم السلطة دون أن يمتلك رؤية اجتماعية أو برنامجاً واضحاً لبناء وطن مهدّم , وإذا كان أحرص على المنصب منه على مستقبل البلد , وإذا كان لا يجرؤعلى رفع لا كبيرة في وجه ايران وأطماعها ولا يقدر على حماية موارد العراق المائية من الابتزاز التركي , و يتهاون مع الاستهتار السعودي والقطري بقدرات العراق , وإذا كانت همته لا تتسع لآمال الشعب ولا تستجيب للتحديات الكردية أو تجاوزات الميليشيات الطائفية , وإذا كان فساد النخبة السياسية مقبولا لديه مادامت هذه النخبة لا تهدد بقاءه في سدّة الحكم , فليس له إلا أن ” يفوت بيها …وخرابة يسويها ” !