بعدما أصبحت هجرة العراقيين خارج العراق أمراً واقعا وازدادت أعدادهم في كل دول العالم من غير بصيص أمل في ان هذه الهجرة قد تصبح معكوسة في القريب العاجل ازدادت حاجتهم الى خلق واستنباط وسائل اللقاء الذي قد يخفف شيئا من آلام الغربة ويضمد جروحها. وهكذا عكف العراقيون على انشاء شبكات التواصل الاجتماعي في موقع الفيسبوك ضمن مجموعات مفتوحة او مغلقة تضم لفيفا من الأصدقاء او من ذوي الاهتمامات المشتركة وهم منتشرين في كل أنحاء العالم حتى أصبحت بعض هذه المجموعات تشكل سقفا افتراضيا يستظل فيه العراقيون ويتبادلون فيه الأفكار والذكريات مع قاسم مشترك هو الحنين الى بعض لقطات الماضي السعيد الذي مازال يزورهم في أحلامهم بين الفينة والأخرى.
ومن البديهي القول ان بعض الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها العراق كالطائفية او التمترس في خندق الأفكار السياسية وعدم الانفتاح على تقبل الفكر الاخر او الغلظة في القول عند النقاش قد انتقلت الى بعض هذه المجموعات فأدت الى تفككها وضعضعتها. اما انا فقد كنت محظوظا اذ ضمني احد أصدقائي الأعزاء والذي تربطني معه علاقة طيبة الى مجموعة أنشأها واعتنى باختيار أفرادها فصارت منبرا لتبادل الأفكار الثقافية والفنية والذكريات المشتركة ، وبالنسبة لي أضحت بعض النقاشات التي نتداولها في هذه المجموعة مصدر الهام لبعض مقالاتي التي انشرها حتى اني أطلقت على بعض منشورات المجموعة لقب (الچفچير) الذي يقلّب في قدر الذاكرة كما يقلّب الچفچير جدر التمن أثناء طهوه كي تنضج حباته بشكل متساوٍ .
نشرت احدى صديقات المجموعة وهي أديبة تتميز كتاباتها بالرقة والصراحة قبل ايام منشورا ذكرت فيه انه ينتابها هاجس من القلق والترقب كلما فرحت فرحاً شديدا خشية ان تغشى ذلك الفرح غمامة من الحزن والألم بسبب أمر مزعج يحدث فجأة ولانه سبق وان حدث ذلك لها في مراحل سابقة من حياتها حيث أصابها كدر وحزن بعد ( فرحة ما تمت ). وقد أيدها البعض من أفراد المجموعة وتمركزت الإجابات حول محور اننا نحن العراقيين مكتوب علينا الحزن وهنالك خشية من قدوم الفرح لانه قد يعقبه حزن بسبب كثرة الأهوال التي مررنا بها. كما وأضافت صديقة اخرى انها كانت غالبا ماتمرض اذا مامرت بها حالة فرح او حزن . وعقبت مشاركة اخرى على انها بعد سنين من الغربة عودت نفسها على تقبل الفرح وعدم التوجس منه . وبطبيعة الحال عقب البعض على ان المرء يجب ان يعيش اللحظة بلحظتها فلا يفكر بالحزن اذا ما أحس بنسيم السعادة يداعب روحه . اما انا فقد أضفت النص التالي لان هذا كان اول احساس غمرني وغالبا مايكون الإحساس الاول صادقا في التعبير عن مكنونات النفس حيث قلت:
“عندما يجتمع العراقيون ويضحكون بشدة على طرفة او نكتة يسارع احدهم فيقول ” ربي اجعلها ضحكة خير” وكأنه يناجي الذات الإلهية ان لا تعاقبه على لحظة الفرح هذه بشيء من الحزن… سيكولوجياً الفرد العراقي يخاف من بطش الرب وبعض الرموز الدينية ربما اكثر قليلا من الرجاء بشفاعتهم . الكثير من الأقوام خارج منطقة الشرق الأوسط تنظر للرب نظرة رجاء وعطف ومحبة اكثر من الخوف من إنزال العقاب والاهوال .”
ثم وعدتُ الصديقة كاتبة المنشور ان يكون هذا الموضوع مدخلاً لمقال قادم أتناول فيه هذا الامر بشي اكثر من التفصيل . وبعدها أطلقت العنان لتفكيري في الغوص في لجة هذا الامر الشائك على طريقة فرويد في التداعي الحر الطليق للأفكار حيث تطفو الذكريات ذات العلاقة تدريجيا وما علي سوى اقتناص الومضات الفكرية وتسجيلها ثم محاولة الربط المنطقي بين النقاط كي تكتمل خطوط اللوحة . اول ما طفا على سطح ذهني هو القول الذي سمعناه في طفولتنا في المدرسة والبيت “ضحك بلا سبب من قلة الأدب “.. تذكرت كذلك احدى المعلمات في الصف الخامس الابتدائي في اول ايام العام الدراسي وهي تنهر احد الطلاب الجدد قائلة “مالك تبتسم كالابله بدون سبب” ثم أدركنا فيما بعد ان قسمات وجه هذا المسكين تبدو عليها علامات الابتسام حتى وان لم يحاول تصنّع البسمة .
ثم تذكرت يوما انني كنت استمع الى خطبة عيد الفطر ولسبب مجهول اختار الخطيب موضوع أهوال يوم القيامة اساسا لخطبته محذرا المستمعين من الانسياق وراء الفرح في العيد وان عليهم ان يتذكروا ما سيحدث لهم ان انغمسوا في مباهج الحياة الدنيا ونسوا الآخرة . ومن المألوف ان معظم خطباء المساجد يميلون الى الانفعال و الصراخ و عادة ما تضاعف مكبرات الصوت شدة هذا الصراخ … اعتقد عزيزي القاريء انك تستطيع ان تتخيل هذه التراجيديا وما تتركه من اثر مدمر على نفسية الطفل حيث ستصاب عنده مستقبلات ومرسلات الفرح في هيكله النفسي بعطب دائم . ان رجال الدين العقلاء يجب ان يشيعوا في نفوس مستمعيهم ان الله سبحانه وتعالى شلالُ لا ينضب من الرحمة والعطف على جميع عباده وانه مصدر الفرح الأزلي لجميع خلقه .
لذا نرى عبر التاريخ انه ومن أجل خلق سيطرة محكمة زاد رجال الدين عبر القرون من غرز الخوف من الرب في نفوس اتباعهم ومريديهم حتى في القضايا الحياتية البسيطة التي لا تستدعي تدخل الذات الإلهية فيها… الى ان ضعفت رؤية الممنوع المركزي تدريجيا والذي هو القاسم المشترك لكل الديانات والشرائع كتحريم السرقة والقتل وخيانة الامانة والكذب . كان احد الأطفال في محلتنا من عائلة متدينة وكان والده قد لقنه انه كلما ارتكب معصية صغيرة عليه ان يذهب فيقبّل باب الجامع وان لا يضحك او يبتسم طيلة ذلك اليوم كي ينال عفو الرب وينجو من النار فكان المسكين ينفذ تلك التعليمات بوجه عبوس معظم أيامه نظرا لكثرة معاصيه الصغيرة حسبما يصوره له عقله المشوش . وهذا هو مايفعله الان سياسيونا المؤمنون جدا حيث يسرقون (مال الله وعباده) ثم يكوون جباههم بقشر الباذنجان الحار قبل ان يقصدوا بيت الله الحرام ويطلبوا المغفرة من فوق جبل عرفات الذي يكاد أن يبصق صخوره عليهم قرفا منهم ومن دنائتهم بدل ان يقوموا هم برجم الشيطان الذي هو بمثابة كتكوت بريء بالمقارنة معهم.
ان الغناء عموما يعبر عن سيكولوجية الشعوب لذا ابتكر النقاد الفنيون العراقيون مصطلح الشجن العراقي تحويرا لتسمية الأمور بأسمائها الحقيقية وهو الحزن الشائع في الكثير من الأغاني العراقية كلاما ولحنا. يروي لي احد الأصدقاء واقعة حقيقية انه كان يقود سيارته وبصحبته زميلته الامريكية التي ضغطت على زر تشغيل المسجل وكان فيه أغنية ليوسف عمر وهو يغني مقام صبا الحزين ،، فهتفت فيه فورا ” ياالهي هذا الرجل يعاني من الم شديد”.
رحم الله فناننا الراحل الكبير يوسف عمر الذي يدخل غنائه الحزين العذب الى القلب العراقي فورا بدون فيزا وجواز … او كفيل على حدود بغداد الحزينة .