من البديهيات المسلم بها والتي لايختلف عليها اثنان، ان الدعائم الاساسية لاقامة اي حكم رشيد لاي بلد متحضر، هي جملة امور، لعل ابرزها سيادة القانون والدستور والعدل والمساواة وتوافر قيم الديمقراطية والحرية والكرامة، مع الاقرار بان القفز على اي من هذه المبادئ او محاولة تسويفها سيخل لامحالة بدعائم الدولة والمجتمع على حد سواء.
وهنا لابد ان نؤكد ان الدستور وبأعتباره العقد الاجتماعي الاسمى والارفع، هو الضمانة القانونية الحقيقية لتماسك نسيج الوطن والمجتمع، باعتباره المرجع القانوني لاي خلاف او اختلاف مهما كبر او صغر، فضلا عن كونه الضامن لحقوق وواجبات الجميع دون استثناء، بعيدا عن الرغبات والمزاجيات والتأويل والتهويل.
وهنا، رب سائل يسأل، عن ماهية الدوافع والنيات التي تقف وراء التسويف والمماطلة والانتقائية من قبل كل الذين تقلدوا زمام السلطة في بغداد بعد العام 2003 ولغاية يومنا هذا ازاء تنفيذ بنود الدستور الدائم بحذافيرها، متناسين ما ورد في ديباجة الدستور العراقي من اقرار بان هذا الدستور هو الضمانة الحقيقة لبقاء البلد موحدا ومتماسكا، حيث تضمنت الديباجة هذا المفهوم على النحو التالي :”إنّ الالتزام بهذا الدستور يحفَظُ للعراق اتحادَه الحُرَ شعْبَاً وأرضاً وسيادةً”.
لعل من ابرز بنود ومواد الدستور العراقي الدائم والتي وضعت لمعالجة جميع الاشكالات والخلافات في المناطق المتنازع عليها وهو المصطلح الدستوري الذي اطلق على المناطق محل الخلاف بين حكومة اقليم كردستان والحكومة الاتحادية، هي المادة 140 الدستورية واجبة التنفيذ، والتي تعتبر خارطة الطريق القانونية والدستورية الوحيدة لحل جميع الملفات العالقة في المناطق المتنازع عليها.
اليوم وبعد مرور اكثر من عقد ونصف العقد على تحرير العراق، لاتزال هذه المادة الدستورية تراوح محلها من دون اي تقدم يذكر، في الوقت الذي تتفاقم فيه المشاكل والخلافات في المناطق المتنازع عليها، وسط بوادر تشير الى احتمال انزلاق الامور الى منزلقات لن يكون من السهل السيطرة عليها، الامر الذي يبرز الحاجة الملحة الى ضرورة واهمية البدء بتنفيذ هذه المادة الدستورية لقطع الطريق امام استفحال الاوضاع والخلافات ومعالجتها وفق الدستور، بعيدا عن روح الاستعداء ضد الكرد والتي كانت سائدة لدى نفر غير قليل من اركان السلطة بعد العام 2003.
لا يخفى على احد، ان سياسة استعداء الكرد كانت السلاح الانجح والامثل والاسهل لدى عدد من سياسيي ما بعد 2003 كوسيلة للبروز والانطلاق ومن ثم تسلق سلم المناصب، وهؤلاء حرصوا على انتهاج هذه السياسة مستثمرين الشحذ النفسي العدائي ضد الكرد الذي وضع لبناته البعث من قبل، بل ان البعض منهم تفوق حتى على البعث نفسه في تنفيذ سياسة استعداء الكرد وجعل هذه المسألة قاعدة انطلاق قوية سرعان ما اينعت ثمارها في لمح البصر، وبتنا نرى اناسا في ارفع المناصب في الدولة العراقية ممن لا تأريخ ولا قاعدة لهم، لا لشيء سوى لمجرد انهم حملوا لواء استعداء الكرد.
اللافت ان ساسة العراق الجدد على اختلاف مشاربهم، انتبهوا مبكرا لهذا السلاح وميزاته وسهولة استخدامه وضمان نتائجه الباهرة، بل ان عددا غير قليل منهم ايقنوا ان سياسة استعداء الكرد بمثابة “جواز سفر” للوصول الى اي موقع او منصب داخل هيكلية الدولة العراقية، بعد ان ايقنوا ان لا سبيل امامهم لتسلق السلم السياسي سوى هذا السبيل الزهيد الثمن.
اليوم وبعد مرور اكثر من عقد ونصف على اسقاط صنم الدكتاتورية، لا نزال نرى سياسيين سائرين على شاكلة ازلام البعث المقبور في استعداء الكرد تنفيذا لاجندات خاصة تتعلق باستثمار الاجواء العدائية التي يخلقونها ضدهم ومن ثم جني ثمار هذه السياسة، بالرغم من ان الكثيرين كانوا يتصورون ان هذه السياسة ستنتهي الى غير ذي رجعة بمجرد زوال البعث، ولكن يبدو ان الواقع السياسي يشير الى عكس ذلك، وهذا يعني ان سياسة التحشيد القومي العدائي ضد الكرد لا تزال تلقى اذانا صاغية لدى شريحة ليست بالقليلة بفضل اصرار البعض من طفيلي ساسة اليوم على الاستمرار في ذات النهج المقيت الذي حرق الاخضر واليابس واصاب البلاد والعباد شر مصاب وبلاء.
اليوم، وبعد ان بلغ السيل الزبى، وبعد ان طفح الكيل، هناك حاجة ملحة لوقفة جدية لعقلاء القوم ازاء ما تشهده البلاد ويعانيه العباد، والالتفات الى كم المشاكل الهائلة التي تعانيها المناطق المتنازع عليها، والعمل بكل اخلاص وتفان لمعالجتها وفق الدستور وبموجب المادة 140 والتي تعتبر آلية قانونية لا يمكن الحياد عنها بأي شكل من الاشكال.
منطقة المرفقات