19 ديسمبر، 2024 1:57 ص

فن صناعة  الأعداء

فن صناعة  الأعداء

لكلِّ إنسان رأي .. والإنسان محترم  بوصفه كائنا  يتنفس معنا نعمة الهواء ويشاركنا  في حصتنا الوجودية  من زرقة البحر  وصفرة الشمس ، يشاركنا الخير والشر .. لذا  فهو صاحب فكرة  وربما مشورته ملزمة الإنصات ، وهو صوت لابد أن نصغي  له، وحق  لابد لنا ان نقرّه ..وكذا فالإنسان له مناوئين وخصوم وأنداد …
وألد أعداء الإنسان هو الجهل ” الإنسان عدو ما يجهل”
لكن على الكائن البشري  أن يكون إنسانا اولا  لكي ُيسمع وُيحترم،  ومن أبسط شروط الإنسانية هو الإصغاء للآخر الند ، وليس البحث عن  أعداء دائميين .. شرط الانسان، أن يكون على صلة عالية بمقامه ومنزلته في المحيط الذي يعمل به ،  حتى لا يتجاوز عمقه كي لا يغرق في الوهم أو  ينفجر كما الضفدعة سابقا أو الحزام الناسف حاليا ,.
والرأي لكي يحترم يجب أن ينطلق من مقومات موضوعية ومهنية ومن خبرة  وثقافة  وحدس تاريخي  في  الشأن المراد الكتابة فيه ..
إذا توفر هذان الركنان وليس الشرطان  فلا بد من إحترام القائل  ورأيه ..
فلو ذهبنا الى المدونات لاهوتيا وبشريا،  سنجد الآخر الند حاضرا بشدة لمناقشة  الآلهة  ومعاندتها .. وظل كل طرف محتفظا برأيه  لحد الآن .. فمثلا صراع جلجامش وانكيدو انتهى الى  وفاق الانداد ..  كذلك الله والشيطان ، والمتنبي الشاعر الكبير له خصوم حتى ألف بها كتاب ” الوساطة بين المتنبي وخصومة “… ومحنة أبي تمام مع عقول المتلقين كانت ماثلة ، وغربة ابي العلاء المعري تشهد على هذه  القطيعة ، وكذا طه حسين  وعلي عبد الرازق وعلي الوردي  وطليعة كبيرة من مفكري التنوير على مدار التاريخ القديم والمعاصر ..
لكلّ من المتبارين أو ” المتباهلين ” ححج وأسانيد  ومنطق  وأفق للحوار ومدار لفضاء البث والتلقي ، وجمهور من المؤيدين والمعارضين معا .
قد يحدث ميل لمزاج على آخر ، قد يحصل جور وظلم ، قد يحصل الإضطهاد والتعدي ..  وقد حصل  التجريم والتكفير على أشدة من قبل المؤسسة على المفكرين ..
لكن التاريخ دوّن ولو بأخبار آحاد أو ضعيفة وخجولة  وما زال التدوين ساريا  ,,  ليخبرنا  بماذا  حدّث المفكرون ولماذا أُدينوا .. فاصبحت لدينا خبرة ومعرفة في ماذا يعني الرأي وماهو  الأختلاف ..
إذن هناك دائما قوتان رغم اختلاف ذراع  المقاومة في الحقل ,, واختلال التوازن في الحكم ..
ولكني ارى العجب في الذي يجري الآن من قدرة البعض ” الطارىء” ” المنهزم  انسانيا”  وغير الناضج معرفيا ، والادعياء ، في مقارعة الآخرين ومصادرتهم بقسوة لا تدانيها  قسوة السيف  وجز الرقاب والمفخخات  واسحلة التدمير الشامل .. لان  صناعة الشر والهدم  لا تحتاج الى الكثير من  المهارات ..
وكما قال صاحبي : لكي تكون شاعرا الآن ما عليك سوى الحصول على جهاز كموبيوتر  وشبكة نت فقط ، والبقية تأتي ..
فهؤلاء للاسف وجدوا الحقل الخصب لنمو مواهبهم  في كسب الاعداء بشكل منقطع النظير ، هم ضد الآخر دائما دون  دراية او ثقافة او مقومات موضوعية لدخول الحقول .. انهم يمرحون تماما  في ارض الله الواسعة حارقين الزرع والضرع .. أقلام صفراء ونفوس ضامرة وجدباء .. لا حجة لهم ولا منطق .. تسوقهم مأرب لا تتعدى ارنبة انوفهم المسدودة عن شم  عبير الاخرين في روض الاختلاف الانساني ، في ضرورة الاختلاف لبلوغ الصورة الانسانية للمجتمع البشري غير المتطابق اطلاقا ..
إنهم نماذج متشابه  تصدر من نفق واحد، وترتوي من نفس المياة الآسنة ,, يعيشون في غابات أنفسهم المظلمة .
يؤسفني تماما إننا نتقاسم معهم حصتنا المتساوية من الأوكسجين والماء وجلال الطبيعة  وبهاء الإنسان ..  لست ضد أحد ولا ضد رأي  ..
بل أسجل اعتراضي  ضد مهنة صناعة  العدو  الدائمة .. في زمن نحن بأمس الحاجة الى صناعة الند الصديق ، القوي .
لاشك ان الفرق مائل وجليّ  بين إضطراب الحواس الانسانية وعبثها وانقيادها الى الشخصانية  والمناكفة المرضية،  وبين الانسان ذو الرأي العميق مهما اختلفنا معه ..
أين نحن من الإختلاف الذي ندعيه والحب الذي نتنطع به ..
أين هي رسالة  الحقول ومهنيتها   في الفكر والميديا عامة ..
لماذا يمتهن البعض تسقيط الآخر مجانيا وبناءً على رغبة مرضية ليس إلا..
الم أقل لكم إن الانسان عدو ما يجهل .. وأكبر  كبائره  جهله بنفسه وقامته  في المحيط  الرخو الذي يجد له متسعا ومتنفسا  لصناعة الأعداء.. مسكين هذا الكائن  الذي يحمل صفة الإنسان دون معرفة لسموها  وجلالها .. ولكن  المنابر  أصبحت مصدرا مجانيا ورخيصا  لصناعة الأعداء واشاعة روح التوتر السلبي والتأزم الشخصي ,, ألم نتفق على أن الإرهاب المعنوي : أو العنف الرمزي.. حسب تعبير التوسير” هو أقصى  درجات  العنف الذي يمارس على الانسان كيانا وفكرا.
ألم نتفق على تجفيف منابع الإرهاب  الذي له دين ووطن وقوم ..
دعوة أخرى لتجفيف منابع الكراهية والغاء الآخر .. دعوة يقودها الحب في الآختلاف ، والمعرفة في الجدل لخلق حالة من الأرتقاء والسمو بالانسان والفكر ، والنأي به عن التشكل السلبي والواحدية في الرأي .
ولنلبس  المحبة التي هي رباط الكمال .
……………………………….

أحدث المقالات

أحدث المقالات