الخطابة فن الـتأثير في الآخر،وهي عبارة عن صياغة لغوية ونفسية واجتماعية وحتى موسيقية للكلمة وللمضمون ، يسعى من خلاله صانع الخطاب الى إستمالة ملايين الأنفس لسماع مضمون الخطاب، فيما إذا كان قادرا على الاقناع، أم مجرد صخب كلامي وانفعالات جوفاء ، لاتتمكن من إيصال الرسالة المطلوبة الى المتلقي،إن لم يكن ينفر منها الجمهور احيانا، وفي أحيان أخرى لايضطر لسماعها، لانه لم يفهمها أصلا، أو أن الرسالة لم تكن ذات مضامين مؤثرة ولم تكن مصاغة بعناية.
وواحدة من المآخذ على طريقة القاء الخطابات الدينية ذات الطابع السياسي ، والتي غالبا ماتلقى في أيام الجمعة أو في التجمعات الجماهيرية ، انها تفتقر الى الاسلوب البلاغي الهاديء المتزن المتعقل، الذي يهدف الى كسب العقول قبل القلوب، وميلها الى الصخب والانفعال السريع وعدم إجادة حتى إستخدام الميكرفون المفضل للنغمة ولطبيعة الخطيب، وفيما إذا كان الجهاز الفني المستخدم يوصل الرسالة بطريقة مريحة أم تواجه عقبات التشويش ،لعدم إختيار النوعية المفضلة من جهة، أو لأن الخطيب لم يحسن المسافة بين فمه وبين الميكرفون، فتكون الخطبة مليئة بالضجيج ، إما لإرتفاع الصوت بطريقة منفرة أو لخفوته.
ويفترض بمن يلقي الخطاب أو الخطبة أن يدخل دورات تطويرية إعلامية نفسية في الطرق الامثل لايصال الخطاب ، ويتلقى الخطباء محاضرات عملية حديثة في كيفية إيصال الخطاب الى الآخر، إذ ان الطريقة المعاصرة، لاتحبذ الاساليب المتبعة حاليا في طرق الإلقاء ولا في طريقة اختيار إسلوب الخطاب نفسه.
ويرى المهتمون بشؤون الخطابة في العصر الحديث إن قوة تأثير الخطبة وسرعة إيصالها الى المتلقي لاتعتمد بعد الان على الخطب الصاخبة التي يظنها المرسل انها تلهب الاسماع ، بل على الكلمة المدروسة والمصاغة بعناية وبكل هدوء الكلمة وانسيابتها ، في قدرتها على الاقناع والبقاء في رأس المتلقي تتفاعل لفترة أطول من الزمن ، على عكس الخطب الصاخبة الموغلة في الانفعال والخطاب المتشنج، فانها سرعان ما ينتهي مفعولها بإنتهاء زمنها، بل تكاك تصيب الكثيرين ربما بالنفور، وعدم سماع أغلب مضامينها، لأنها لم تحسن كيفية التوجه الى الجمهور وبأي لغة يفضلون، وبأي إسلوب وبأية طريقة، لكن كلما كان الكلام بليغا هادئا مدعما بالتحليل النفسي الاجتماعي والعلمي يكون دخول الرسالة المطلوبة أكثر تأثيرا وأمضى إستقرارا في عقل المتلقي.
فالخطيب ينبغي ان يكون مثل صائغ الذهب او من يصهر معدنا او قالب حديد، عليه ان يفككه أولا ويعيد ترتيبه من جديد ، ومن ثم يصيغ كل حرف وكلمة لتدخل مكانها، وتكون خطبته مثل السبيكة لديها القدرة على ان تظهر براقة متكاملة تسحر القلوب والافئدة والعقول، والافضل ان تقتنع بها العقول قبل الافئدة، على عكس البضاعة التي ربما يحاول التاجر أو المروج لها ، ان يكسب بها القلوب ويستميل لها المشاعر ويستسيغها الوجدان ثم تعقبها عملية الشراء بعد ان يقتنع المشتري ان السلعة او البضاعة رائجة تتفق مع مفاهيمه وحاجاته، وتلبي رغباته، وتشبع نهمه الى الكمال الافضل، أو في الأقل ، تتوافق مع رغباته وتشبع بعضا منها ، وتنسجم معها.
أجل فالكلمة أقرب الى النحت في صخر ، ينحت فيه الخطيب الكلمة نحتا ويحولها الى مساحيق صغيرة، ثم يعيد تركيب ذراتها واجزائها من جديد، ليصقل منها كلمة تعقبها أخرى في تناسق كلام جميل ومؤثر، وقادر على الاقناع ويعرف طبائع البشر ورغباتهم وميولهم واتجاهاتهم ووقدرتهم على التحمل، فليس لدى كل الناس القدرة على تحمل الخطب الطويلة ، أما الخطب الصاخبة فهي الاقل تأثيرا والاكثر نفورا، وليس مثما يظن البعض انه بمقدوره ان تصل رسالته الى الناس، أو يعتقد ان لها تأثيرا كبيرا، فبعض الخطب من شدة صخبها ربما لن تجد أحدا وقد تأثر بها او أستفاد منها ان لم يكن قد ضجر منها او لم تعجبه طريقة عرضها، وضاعت عليه الحقيقة بين الصخب والانفعال، فنسي المفهوم المقصود او لأن طريقة الصخب نفسها لم تعد تعجبه، ويفضل لو وصلت الى الاسماع هادئة منسابة مثل شلال متدفق ينساب ماؤه بعذوبة فتطيب بشرابه الانفس وتتلذذ به الافئدة وترتاح له العقول، ويسحر القلوب المتلهفة الى رؤية من يروي عطشها أو يشفي غليلها ، بأن يذيقها شرابا طيبا مستساغا، له القدرة على إشباع رغبات أكبر عدد ممكن من المتلقين وتحقيق القدر الأكبر من الافادة وهو الاقتناع والخزن للمعلومة الى أكبر وقت ممكن ان يستقر بها المقام في عقله وضميره ووجدانه، ويجد فيها ضالته نحو التفوق والقدرة على الاستجابة للداعية، كونها وجد فيها شرابا طيبا أراح نفسه وشعر بالإرتياح، وهكذا الخطاب، يحتاج الى مواصفات من هذا النوع لكي يكون له القدرة على التأثير والاقناع.
وكلما مال إسلوب الخطاب الى أن يكون واضحا مفهوما بليغا مدعما بالشواهد والأدلة، وبدون صخب أو ضجيج، يكون الخطاب أكثر قدرة على التأثير والاقناع، ويؤدي المهمة بنجاح، وهي مهمة الشباب الجدد ، في ان يبتكروا أساليبا جديدة تعتمد كل هذه السمات، لكي تكون الخطابة قد أدت غرضها، وأكتملت رسالتها.