يعتبر كتاب (فن الحرب) لكلاوزفيتز(1) الذي سجل فيه انطباعاته عن حملات نابليون، افضل كتاب حول هذا الموضوع. وكلاوزفيتز يمكن ان تفهمه بأكثر من طريقة، وتفسر نظرياته على اكثر من وجه.
ويعتقد كثيرون ان الفصول الاولى في الكتاب فقط هي التي تعكس افكاره المتطورة، ومع ذلك، فأنه يعتبر احد الكتّاب العظماء.
ورغم ان كلاوزفيتز نتاج زمانه لكنه مزج وعلى نحو رائع بين معلوماته وثقافته التاريخية وبين قدرته على التنظير لانتاج كتاب عسكري تحليلي لا نظير له.
ولانه كان اكثر المفكرين العسكريين تأثيراً في زمانه، فقد تعرض لنقد شديد حتى اتهمه البعض بأنه سبب الحروب التي تلت… لأن كتاباته ونظرياته كانت تضفي الصفة الشرعية على الحرب وتعتبرها بمثابة الحل الحاسم للمشاكل السياسية.
ومن الصعب الحكم على مدى تأثير افكاره على الممارسات والاجراءات والخطط العسكرية الراهنة، لكن المنظرين العسكريين الذين جاؤوا بعده اضطروا للاستشهاد بنظرياته او تحديد مواقفهم منها على الاقل.
ولا يختلف الأمر بهذا الصدد مع جون كيغان(2)، احد اشهر المؤرخين العسكريين في الغرب، مؤلف كتاب (تاريخ الحرب A History of warfare) الذي يعتبر اعظم انجازاته حتى الآن.
يعتقد كيغان، ان كلاوزفيتز لم يكن ذلك المؤرخ الجيد ولا حتى المنظر العسكري الذي يعتمد عليه، لانه ركز كل اهتمامه على الحروب النابليونية، وبالغ كثيراً في ثأثير العامل السياسي، بينما تجاهل العامل الثقافي.
وفي معرض مساعيه لتطوير نظرية بديلة يبدي كيغان اهتماماً زائداً بالعلوم الاجتماعية والانثروبولوجيا(3) بشكل خاص. وهو العلم الذي تجاهل اهميته المؤرخون العسكريون الآخرون.
وتعتبر الفصول التي عالج فيها تشابك العوامل الانثروبولوجية بالمسائل العسكرية، هي افضل ما كتبه.
وبعد ان يوضح كيف ولماذا كانت الحروب تنشب في الماضي بين المجتمعات المختلفة يتابع تطورها من خلال اشكالها الثقافية المختلفة، ابتداء بالعالم القديم –حملات المسلمين والمغول- الى العالم الحديث وحروبه الجماعية وحتى الردع النووي.
ويستعرض اثناء ذلك من حين لآخر ما طرأ من تطور على بعض الجوانب العسكرية مثل اللوجستيك(4) وتطور الاسلحة وتنظيم الجيوش.
ويعالج كيغان كافة هذه الامور العسكرية المعقدة بأسلوب بسيط واضح لكن الكتاب تنقصه النواحي التاريخية ومعلول في جانبه النظري.
ويظهر ان كيغان اشتقى او بنى ملاحظاته عن كلاوزفيتز. والحقيقة ان القارئ يستطيع الاعجاب بكلاوزفيتز دون ان يتبنى نظرياته تماماً، كما يعجب القارئ بكارل ماركس دون ان يصبح ماركسياً بالضرورة.
وعلى اي حال، اعتقد، ان كيغان لا يجانب الصواب في تأكيده على الجانب الثقافي في تقرير الحرب. ولا يوجد من يستطيع مجاراة او مضاهاة قدراته على تحليل اساليب التحصين وبناء الخطوط الدفاعية- وفن طبوغرافيات المناطق والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية- او تقييم حدود القدرات العسكرية والنتائج الاقتصادية والاجتماعية للحرب.
ويذهب كيغان الى أبعد من ذلك عندما يؤكد بأن الثقافة أكثر اهمية من السياسات في تقرير الحروب. فبعض الثقافات تعتبر الحرب غاية في ذاتها كطريقة للحفاظ على مركز طبقة المحاربين. اما القول، ان الحرب استمرار للسياسة بوسائل اخرى، فيرى كيغان بأنه قول خاطئ لأن السياسة لا تبدأ العمل والتحرك الا بعد وجود نزاع يستدعي الحل. والمنازعات عادة نتيجة حتمية لندرة بعض السلع والمصادر وتناقض القيم والمفاهيم والثقافات بين الشعوب.
ان استمرار وجود مجموعة بشرية او طريقة معينة في الحياة هو موضوع سياسي بلا شك. واذا درسنا التاريخ وفق تصوراتنا الراهنة بأثر رجعي لوجدنا معظمها حروباً غبية قررها الزعماء اعتباطاً.
ويعتقد المؤلف، ان السياسة لا تستدعي الحرب بالضرورة، لكن الحرب تستدعي السياسة، وان الكثير مما يقع في الحرب يحدث في السياسة بدون ازهاق الارواح بما في ذلك الحملات الانتخابية والانفاق العام والمؤامرات او الانقلابات الثورية.
يتفق كيغان مع معظم الكتّاب المعاصرين، انه لم يعد باستطاعة الحرب ان تخدم الاهداف السياسية الا في حالات استثنائية، ولذلك، فأن العالم بشكل عام يسير بخطى حثيثة نحو السلام، لكنه يقول في فصل آخر- اننا بحاجة الى المقاتلين لحماية الحضارة الانسانية ضد امراء الحروب والجريمة المنظمة والانظمة السلطوية.
ومهما كان الامر، فان الحروب لن تقع بين البلدان الكبرى ولا بين البلدان الغربية وستتحول الخلافات الى تنافس تجاري واقتصادي.
اما عن فظائع الحروب في يوغسلافيا السابقة التي اتخذها كيغان دراسة حالة ، فهي عصية على التوضيح من المنظور العسكري التقليدي ولا يمكن فهمها برأي كيغان الا من المنظور الانثروبولوجي الذي يمكن ان يوضح هذا الكم من مشاعر الكراهية المتبادلة، فالسياسة ليست مسؤولة عن تفجير الحرب في يوغسلافيا، وكل ما في الامر ان كل جماعة من الجماعات المتحاربة تسعى لتأكيد وتثبيت هويتها والدفاع عما تعتقده انه اراضيها بالوراثة، اي ان الحرب هي التي تشكل السياسة في يوغسلافيا (سابقاً) وليس العكس.
الهــوامش
1- كلاوزفيتز، فيلسوف ومفكر الماني وقائد عسكري، عين مدرباً لملك بروسيا فريدريك غليوم الرابع، اسهم اسهاماً فلسفياً في فهم الحرب من خلال كتابه (في الحرب On war)، ضمته تأملاته وملاحظاته من خلال التنظير والممارسة وبذل جهداً كبيراً في دراسة وتحليل مختلف جوانب الحرب، ولقد نشر الكتاب اول مرة سنة 1832 بالالمانية. ترجم الى العربية من قبل اكرم ديري
والهيثم الايوبي وصدرت طبيعته الثانية عام 1980 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
2- جون كيغان، مؤرخ عسكري ولد في بريطانيا عام 1934 وتوفي فيها عام 2012، له العديد من المؤلفات التي تناولت مفهوم الحرب وتاريخ معاركها، وكان آخر كتاب ألفه تاريخ الحرب الصادر في لندن عام 1994 (A History of war far, London, 1994).
3- الانثروبولوجيا – علم يبحث في اصل الجنس البشري وتطوره واعراقه وعاداته ومعتقداته.
4- اللوجستيك – تزويد الجيوش بالمؤن والذخيرة وكافة متطلبات العمليات العسكرية.