23 ديسمبر، 2024 5:47 ص

فن الإصغاء إلى الذات وتنمية الاهتمام بالعالم

فن الإصغاء إلى الذات وتنمية الاهتمام بالعالم

” على الإنسان أن يعرف كل شيء لكي يقرر…لأن أفضل ما يمكن من الاقتدار في العيش يعتمد على الدرجة التي نعرف بها أنفسنا بوصفها الأداة التي توجه نفسها في العالم وتكون القرارات.”1[1]
ما انفك البعض يدق النواقيس حول جدية المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها العرب في المستقبل والسبب ما يعانوه من أزمة حقيقية عصفت بكل مقدراتهم في الوجود وأضعفت مدخراتهم في الاستثبات والبقاء.
لقد بدأت علامات التأخر الحضاري تظهر بوضوح يوم توقف الاجتهاد الفقهي وتفككت جل مؤسساتهم الروحية التي ظلت ترعى لقرون طويلة وحدتهم الرمزية وأخفق المشروع النهضوي الأول بصورة مسترابة وذهبت الوعود الغربية بعيد الثورة بالمساعدة على إقامة الدولة الأمة الواحدة أدراج الرياح.
لم تنقشع الظلمات القروسطية التي خيمت على الأجواء العربية بمجرد تعبير بعض التيارات السياسية الوليدة عن نواياها في استعادة بعض الكنوز النيرة ورغباتهم في تشغيل عدد من الخيارات العقلانية.
لقد حجب الاستعمار الغربي على العرب المظاهر المستنيرة للحداثة العلمية ولم يصلها سوى الإبداع في الهيمنة والاستغلال والإلحاق وبدل التسريع في إخراجهم من أنماط الإنتاج التقليدية وتمكينهم من تغيير ظروف الإنتاج ومساعدتهم في تطوير قدراتهم الذاتية في التنمية والترقي يتم تعميم الاكتساح والتعويل عليهم في حروب غير عادلة ونقلهم من حالة السلم إلى حالة الحرب وإجراء تفاهم دولي دون تشريكهم.
اذا كانت حركات التحرير قد أفضت إلى تشكل كيانات حكم مستقلة في الظاهر وذات مصالح تابعة في العمق فإن تشكل المؤسسة الجامعة ومحاولة الانتشار القاري والجيوسياسي ضمن كتلة عدم الانحياز لم يؤدي إلى إحراز الاستقلال التام ولم يمنع الكيانات الناشئة من التمتع بالسيادة في حكم شعوبها وتقرير مصيرها ولذلك اندلعت النزاعات الإقليمية وبرزت إشكاليات عالقة وتم تأجيل حلحلة قضايا عادلة.
لقد وقع العرب في مأزق خوض حروب من أجل الآخرين وتفننوا في صناعة الخصوم واستعداء العالم ولقد زاد حيازتهم للثروة المتأتية من الطاقة من أطماع القوى العالمية في التدخل في شؤونهم واستقطابهم.
لقد عاش العرب الصدمة والترويع ووقعوا في الفخ الذي نصب لهم وفق مؤامرة كونية حيكت لهم ضمن لعبة أمم متصارعة على مقدرات البشرية وتقاسم النفوذ على الجغرافيا الكونية وجُرُّوا إلى حرب مترحلة.
قد لا يكفي الشعور بالازدراء وتعاظم السخط على الوضعية الصعبة قصد إحداث المنعطف وتحقيق اليقظة والسير في درب يفضي إلى الاستفاقة والانتعاق وتغليب إرادة البناء والتعمير على نزوع الهدم والتخريب.
لن يصنع العرب مصيرهم بأنفسهم إلا إذا تخطوا حالة الانقسام والتشرذم وتخلوا عن إفراط الاهتمام بالذات وعملوا على تنمية الاهتمام بالعالم وحصروا مشكلاتهم بحق الإنسان وجعلوا من وحدة الفكر دعامة لوحدة المجتمع وأوقفوا مهزلة التباغض الداخلي والتورط في نزعات عديمة والاستعانة بالغير على الذات.
كما يلزم أن يكون القرار السياسي مبنيا عن دراية عميقة بالواقع الموضوعي وقراءة استشرافية للمستقبل وكلما كانت المعرفة بالذات وبالغير أكثر متانة ودقة كانت القرارات التي يتخذها الناس أكثر سداد وصحة.
خلاصة القول أن المعركة الحقيقية من أجل الاستثبات تقتضي امتلاك شروط الاستبقاء بالمقدرة على النماء ويستوجب تغيير المجتمع نحو الأحسن الإصغاء إلى استحقاقاته في حياته العامة والخاصة والتركيز على خبراته النضالية ودوافعه الذاتية في التنمية وتنشيط الأنظمة الدفاعية الحية وتعبئة الطاقات في التأثير. وبالتالي ” لا ينبغي للمرء أن يقاتل في سبيل حرية شعبه فحسب، وإنما ينبغي أيضا، وما ظلت المعركة قائمة، أن يعلم هذا الشعب مرة أخرى، أن يعلم نفسه مرة أخرى، حقيقة الإنسان. يجب أن يسير في دروب التاريخ من جديد، تاريخ الإنسان الذي حكم عليه البشر بالعذاب، وأن يدعو إلى التقاء شعبه بسائر البشر، وأن يجعل هذا اللقاء ممكنا”2[2]، فكيف يزيل النضال السياسي من أجل التحرير كل اندفاع بشري نحو الإضرار بالغير؟ وماهي العوامل الشفائية من أمراض الغطرسة والاستئثار والتعسف؟
 
المراجع:
1- فروم (اريك) ، فن الإصغاء، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طبعة أولى 2004، ص 52
 
2- فانون (فرانس)، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، دار الفارابي، بيروت، طبعة أولى، 20054،ص 330.
 
كاتب فلسفي

[1]  فروم (اريك) ، فن الإصغاء، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طبعة أولى 2004، ص 52
[2]   فانون (فرانس)، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، دار الفارابي، بيروت، طبعة أولى، 20054،ص 330.