14 أبريل، 2024 2:59 ص
Search
Close this search box.

فندق أبـو توفــيق

Facebook
Twitter
LinkedIn

بعد إنتهاء مرحلة الدراسة الجامعية توجهت إلى أداء الخدمة العسكرية الإلزامية. تم نقلي إلى مدرسة الشؤون الإدارية في منطقة اليوسفية جنوب بغداد بعد الإنتهاء من التدريبات الأساسية في مركز تدريب السليمانية الأساسي في منطقة واقعة بين سنجار وبعاج شمال غرب العراق.

المناطق في بغداد واليوسفية كانت غريبة عليّ نوعاً ما، فإنها المرة الأولى التي أزور فيها هذه المناطق. في اليوسفية الإقامة كانت في قاعة داخل مدرسة الشؤون الإدارية وكانت الأسرّة بطابقين داخل قاعة مزدحمة بالجنود قدموا من كل حدب وصوب.   

هناك تعرفت على جنود خريجي جامعات مختلفة والذين إقترحوا أن نذهب إلى بغداد ونقيم في فندق ما هروباً من الوضع الصعب، حيث قلة المأكل والمشرب وإنعدام إحترام البشر وافتقار المعسكر إلى المرافق الصحية والحمامات. بعد إنتهاء الدوام عند الساعة الثانية ظهراً قمنا بذلك فعلاً ورجعنا بسيارة (تاتا) إلى منطقة علاوي الحلة حيث الموقف الأخير لسيارات اليوسفية في بغداد. منطقة العلاوي هذه منطقة شعبية فيها أزقة ضيقة وبعضها في حالة يرثى لها. ليس لنا بد إلاّ أن نبحث عن فندق في هذه المنطقة رغم بساطتها كي نستيقظ منذ الصباح الباكر ونصل إلى مرآب سيارات اليوسفية مشياً ودون تكلفة مادية لننطلق من هناك إلى حيث المعسكر.

لم يكن البحث عن غرفة في فندق أمراً سهلاً، فبعضها كانت ممتلئة ليس فيها أسرّة فارغة وبعضها كانت في حالة يشفق عليها من القذارة والأوساخ والبعض الأخر كانت بأسعار لا تناسب رواتبنا العسكرية التي لم تكن تتجاوز الدولارين في الشهر الواحد. بعد التحري والبحث لساعات كانت القسمة أن نستأجر غرفة واحدة نسكن فيها نحن الستة ونتقاسم ثمنها فيما بيننا وكان ذلك في فندق أسمه (فندق أبو توفيق).

فندق أبو توفيق يقع في زقاق ضيق على طرفيه أبنية قديمة جداً. والفندق هو الأخر بناء قديم وقد جذب إنتباهي جملتان كتبتا فوق الباب الخارجي للفندق. الجملة الأولى تقول “تبريد مركزي” والكتابة الثانية “جناح خاص للعوائل”. الحقيقة أن مظهر الفندق لا يوحي بمصداقية الجملتين وليس للعوائل أن تسكن في هذا المكان البائس ولا أعتقد أن يكون هذا المكان المتعب مبرد مركزياً. التأريخ هو نيسان 1996 والجو ربيعي ولا يتطلب التبريد، دخلنا الفندق ولم يكن أحداً موجوداً في إستقبال الفندق المتكون من مكتب أثري منهك متهشم الأطراف يحكي قصة المكان. بعد طول إنتظار خرج رجل مسن ودون إلقاء التحية سألنا “كم غرفة تريدون؟.

الملابس العسكرية التي كنا نرتديها كانت السبب في أن يتعامل الجميع معنا بإستصغار بالغ. فالذي كان يلتحق بالخدمة جندياً في الجيش العراقي كان يفقد كل حيثياته داخل المعسكر أولاً وخارجه ثانياً. في المعسكر كانت تقدم لنا نحن الجنود أسوء أنواع الأطعمة (القصعة) الغارقة في القذارة. كانت تطبخ لنا أردئ أنواع اللحوم التي لن تستوي حتى لو تركت على النار ليومين. أول مرة شاهدت فيها لحماً أصفر اللون كان في مركز تدريب السليمانية ولا أدري إن كانت هذه اللحوم لحيوانات ميتة أم مريضة حتى تعودت عيناي على ذلك فيما بعد. لا يهم إن كنت خريجاً جامعياً أم لا وحتى إن كنت تحمل شهادة الدكتوراه في الذرة، فإن الشعار الذي ستواجهه في الجيش يقول “خريج مريج كلها تشرب بالابريج”. حتى الناس في الشوارع والأسواق كانت تخاطبنا بـ “ابو خليل” دون أدنى إحترام لذاتنا البشرية. ناهيك عن الإحتقار الكبير من قبل أفراد الانضباط العسكري الواقفين في سيطرات ونقاط التفتيش في الطرق الخارجية الذين كانوا يعاملون الجندي كما يعامل المحكوم بالسجن مدى الحياة لا سيما وإذا كانت معك في السيارة (الباص) راكبة من العنصر النسوي. لهذا السبب فإن القيافة العسكرية للجندي العراقي لم تكن تختلف كثيراً عن القيافة الحمراء لمجرم محكوم بالإعدام شنقاً حتى الموت.

لم أستغرب من حديث عامل الفندق هذا الرجل المسن وأسلوب تعامله معنا فنحن لسنا سوى جنود حقراء لا نستحق غير ذلك في أعينهم. تقدم أحد الزملاء وهو خريج كلية الهندسة من جامعة الموصل بالحديث إليه وقد حصل صديقنا المهندس على غرفة بثلاثة أسرّة في الطابق الثاني. إستلم المفتاح وصعدنا إلى الغرفة ذات الجدار الملوث وقد كتبت عليها أسماء وذكريات وتواريخ والإنارة القليلة في الغرفة مؤلفة من مصباح أصفر واحد لا غير ورائحة كريهة جداً تنبعث من كل أرجاء الغرفة تكاد تدمع عيوننا. أحد الأصدقاء سارع إلى فتح الشبابيك والأخر طلب مني أن ننزل إلى موظف الإستقبال لتغير الغرفة القذرة. نزلنا إلى العامل وقال له صديقي “عمي الغرفة بيها ريحة تكتل ممكن انغير الغرفة؟.

لم يتردد الرجل في الإجابة:

 “هي الريحة مال بوسطال جنود مثلكم.. ثم إذا الغرفة ما عاجبة حضرة جنابك انطيك عنوان فندق شيراتون شيل جوالاتك وروح اهناك.

أيضاً لم أفاجئ بالجواب فنحن لسنا سوى جنود غضيضين. حينها كانت أجسادنا منهكة من التدريب والتعب يكاد أن يشل أطرافنا. سحبت صديقي من ذراعه وصعدنا إلى الغرفة واستلقيت على إحدى الأسرّة الثلاث بعد أن افترش ثلاث أصدقاء الأرض لعدم كفاية المكان.

 الوسادات التي نضع رؤوسنا عليها يندى لها جبين الإنسانية لنجاستها والأفرشة المرقعة التي ألقينا بأجسادنا عليها هي الأخرى كانت وسخة جداً في غرفة لا تصلح حتى لتربية المواشي. نتطلع إلى سقف هذه  الغرفة الحقيرة وكان الصّمت يسود الأجواء المظلمة. كل واحد فينا قد سرح بمخيلته شارداً إلى عالم وردي آخر هارباً من الحقيقة المرة التي نعيشها في هذا الحيز التافه. كنت أنا غارقاً في صور الليالي التي كنت أنام فيها على أفرشة أمي والتي كانت من ريش النعام. أفكر بأيام الجامعة حيث الزي الجامعي والشياكة والاعتبار والمشي بكل فخر. لابد أن أصدقائي أيضاً كانوا تائهين في أروقة الذهن ولم يكونوا حاضرين في الغرفة إلاّ جسداً دون عقل. لذا فلم يعلق أي منهم على تساءل أحد الأصدقاء الذي خرق صمته بغتة وقال “وين كنا و وين صرنا؟”.  

الليلة هذه مضت وعلى مضض حتى إستيقظنا على صوت أطفال في ممرات الطابق الثاني أمام الغرفة. ما أن خرجت إلى الحمامات حتى وجدت نساءً وأطفال يتزاحمون أمام الحمامات. وقفت معهم منتظراً دوري حتى تبين لي فيما بعد أن هذه العوائل هم المتسولون الذين يشحدون نهاراً في الشوارع وينامون ليلاً في فندق أبو توفيق.

مضت الأيام ونحن نخرج كل صباح متوجهين إلى المعسكر بعد أن نشرب الشاي من الكشك الموجود على قارعة الطريق مع الصمون الحجري الحار. ثم نستقل الـ (تاتا) متوجهين إلى المعسكر لتعود الحالة نفسها كل يوم حتى بلغنا شهر آيار  حيث إرتفعت درجات الحرارة وأصبح الجو لا يطاق. لم أكن متعوداً على حرارة الجو في بغداد حيث الرطوبة المصاحبة لها تجعل التنفس صعباً. الغرفة هذه المرة تحولت إلى جحيم حقيقي ومع المروحة السقفية التي تدور بكل سرعتها وتحرك الهواء الحار. أصبح النوم صعباً في ظل صوت الهواء الناشئ من سرعة دوران المروحة ممزوجاً بصوت وجكجكة محرك المروحة نفسها التي بحاجة إلى التزييت والتي تقلق المسامع في هذه الطقوس الملتهبة.  

رغم مرور أربعة وعشرون عاماً بالتمام والكمال على هذه المأساة إلاّ أنني أتذكرها كل يوم وأنا جالس في بيتي ودرجة الحرارة تفوق الخمسون درجة والكهرباء مقطوعة. أضع المروحة السقفية على آخر سرعة لها لأن المولدة التي أسحب منها الكهرباء لا تكفي لتشغيل المكيف. وفي زمن إنتشار الأمراض وجائحة فايروس كرونا ومع صوت المروحة السقفية هذه أستذكر أيام فندق أبو توفيق وبكل تفاصيلها وفي وطن لم يقم لكل ذلك أي إعتبار وقد تحول برمته إلى  فندق أبو توفيق

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب