في كتابه (القاص والواقع) يقول الناقد ياسين النصير( السرد لم يكن إلا وليد ظروف مادية ، وتطلعات طبقية ، وموقفا أميناَ للحدث التاريخي المعاصر) .. ومن هذا المفهوم النقدي الحديث، تصبح ثنائية الحقيقة والتاريخ إحدى أهم الركائز التي يستند عليها النص الروائي بكافة أشكاله وتوجهاته ومدارسه، إلا إن هذه الثنائية تخضع لعدة عوامل تؤثر في خلق موائمة منطقية بين طرفيها، وانسجاماَ ديالكتيكياَ يتيح للقارئ الاطلاع على الحدث التاريخي بصورة تمكنه من معرفته، بعيدا عن التدليس والتشويه والمغالطات ، ومن هذه العوامل ، الموروث البيئي والديني الذي نشا عليهما الكاتب، والثقافة الحتمية المسيطرة على تفاعله وتعاطيه مع مجتمعه، ومتبنياته الفكرية، وسعة ثقافته وإدراكه المعرفي، إضافة إلى الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة به أثناء كتابته للنص الأدبي ، ومدى قدرته على تجاوز كل تلك العقبات والمحددات لطرح الحقيقة التاريخية كما هي وبتجرد، مع الحفاظ على القيمة التاريخية للحدث ضمن إطار سردي يحمل قيمة فنية رصينة قادرة اجتذاب القارئ وأسره وهو يتتبع البناء الهرمي لذلك النص، وقد اقتربت من هذا المفهوم بطريقة أو بأخرى رواية ( سفاستيكا) للروائي علي غدير والصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع 2016 والحائزة على جائزة بغداد للرواية.
في تكنيك جميل مزج بين المثيولوجيا المستمدة من التراث والحقيقة التاريخية استطاع الروائي أن يخلق واقعا سحرياَ (فنتازيا) ضمن السياقات البنيوية للنص، بدءاَ بعنوان الرواية (سفاستيكا) الذي يمثل شعار الصليب المعقوف ذو الزوايا القائمة، رمزية مثيولوجية (للحظ السعيد) استحضرها الكاتب من أدبيات وديانات شعوب غابرة في وادي الرافدين والهند، وجد له مكانا في تاريخنا الحديث ليتحول إلى شعار الحزب النازي الألماني في ثلاثينات القرن الماضي، ليدخلنا الروائي بعدها في نمطية سردية ذات تناص ضمني مع أدبيات حملت بعداَ أسطورياَ خيالياَ ، عندما يتحول الإنسان الفقير المعدم الى ثري بين ليلة وضحاها مدفوعاَ بعاملي الحظ والصدفة، وتنبؤات ورؤى تناولها التراث الإنساني منذ قرون ، ليعيد الروائي صياغتها بلغة أنيقة ضمن أسلوب سردي طغى عليه الوصف الدقيق والجميل، إلا إن الإسهاب والاستغراق فيه قد أثقل النص في بعض محطاته، وسيميائية لها دلالاتها المادية والإيحائية المؤثرة ( الصور الإشارات الإيحاءات الجسدية الأصوات ) والتي كانت حاضرة بشكل واضح في ثنايا السرد.
تبدأ الرواية بهجرة غرائزية للجسد والروح اجتاحتا (حواس) بطل الرواية ، وحلمه بنيل جسد (دلال) بائعة الهوى التي تسكن إحدى مناطق بغداد القديمة ، بعد أن سمع عنها من ابن شيخ القرية، هذا الحلم الغير مشروع الذي قاده إلى سرقة (خلخال) أمه ارث أبيه الوحيد لها ، وثمن قتله لعشرة مقاتلين أكراد أبان حرب الشمال في العراق في سبعينيات القرن الماضي، حواس الشاب الجامح البسيط بإمكانياته الذهنية والجسدية الهارب من أهله بخلخال أمه من إحدى قرى محافظة كركوك عام 1979، بحثاَ عن متنفس لغرائزه الجائعة ينتهي به المطاف ضحية سهلة لعملية نصب في إحدى أزقة بغداد وهو في طريقه للبحث عن ضالته ، وفي حالة يأس مطبقة يعيشها البطل للحظات يقرر بعدها الانتحار، ليقوده حظه السعيد إلى الارتماء امام سيارة نائب الرئيس آنذاك، ليبدأ أفق جديد في الرواية ينتقل خلاله (حواس) انتقالة نوعية بعد أن يمنحه نائب الرئيس خمسة آلاف دينار ويحقق أمنيته الكبيرة بان يجعله صحفي مشهور. (قرار الانتحار) الذي يمثل نقطة التحول الرئيسية في مسار الرواية ، نلاحظ فيه وجود بعض التناقض بين الطبيعة السايكولوجية للبطل ذات البعد الفطري ألغرائزي وبين قراره السريع بالانتحار بالرغم من دفعة الأمل الذي منحته إياه (العرافة) وتنبؤها له بالشهرة والثراء، حيث تجاهل الروائي التمهيد لهذا القرار المفصلي في حياة البطل، ولم يخضعه لحالة من التداعي النفسي والفكري يساعد القارئ في تفهم مغزى هذا القرار المفاجئ والخطير، وهذا قد يكون سببه السرعة الكبيرة في الانتقال في زمن الرواية وتوالي الأحداث فيها بطريقة دراماتيكية ، واستخدام الروائي لتقنية (القفز) داخل ثنايا النص،مثل قراره بالانتحار المفاجئ، المناصب الإدارية الكبيرة التي تسنمها، توثيق علاقاته مع السلطة الحاكمة آنذاك، هروبه من العراق إلى الأردن بسبب اشتراك أخيه الأصغر بمحاولة انقلاب ضد النظام ، بعد أن أصبح هو احد المقربين للنائب الذي أصبح رئيسا للعراق فيما بعد، وعدم التمهيد لهذا الحدث المهم والمفصلي في حياته، هروب مرافق الرئيس وصهره (صالح) في اشارة الى (صهر الرئيس السابق الذي هرب من العراق مع ابنة الرئيس واطفاله الى الاردن في منتصف تسعينات القرن الماضي) .. دون ذكر الأسباب أو وجود مقدمات لهذا الحدث، وصول البطل إلى منصب نائب رئيس الوزراء بعد عام 2003، هذه الانتقالات السريعة والمفصلية في الرواية على الرغم من إضفائها بعض الضبابية على السرد، إلا إنها مكنت الكاتب بالإلمام بجميع الأحداث التاريخية في تلك الفترة، وإيصال ما يريد إيصاله إلى القارئ بعملية إحاطة شاملة للموضوع عبر روايته التي لم يتعدى عدد صفحاتها المائة والأربعون صفحة من الحجم المتوسط.
شكلت الواقعية السحرية (الفنتازيا) جزء محوري في تركيب الإحداث في الرواية، والتأثير على سياقها العام ، عبر مجموعة من الرؤى الميتافيزيقية تماهت مع الواقع وسارت معه بثنائية متوازية، تقاطعت في بينها بمفاصل مهمة لتشكل الوجه العام للنص، مثل الشيخ الذي رافق البطل في رحلته من كركوك الى بغداد في القطار وحديثه الفلسفي معه عن الحظ وأهميته في حياة الإنسان ، ثم اختفائه فجأة تاركا نصف عملة ورقية من فئة الدينار في مكانه، التقاء البطل بالعرافة التي افترشت ناصية الزقاق القديم في بغداد الذي هام فيه بعد سرقه ماله والاعتداء عليه ضربا، ونبؤتها التي كانت بمثابة عملية تدوير جديدة لحياته، حين تنبأت له بالمال والشهرة والجاه ، على شرط إعطائها نصف ما يكسب ، ولعنتها (العجز الجنسي) الذي رافقه طيلة حياته لانه اخل بالاتفاق، اكتشافه بان الشيخ الذي رافقه في القطار هو أب للدكتورة حواء مدربته في الصحافة وقد توفي قبل خمسة سنوات على الرغم التقائه معه منذ شهور، عثور البطل على النصف الآخر للعملة الورقية التي يمتلك هو نصفها الآخر ، في جيب شخص ارتمى أمام سيارته حين أصبح نائبا لرئيس الوزراء.
ويتخلل النص اشارات فنتازية أخرى ترافق بعض أبطال الرواية مثل (صالح) مرافق الرئيس وصهره، حين أخبرته العرافة الفرنسية بطالعه وبما يجب عليه أن يكون، وتوقعها لمصيره المأساوي فيما اذا لم يحدد اتجاه في الحياة وماذا يريد فيها..( يٌخلد الزمن كل اسود وابيض أما الأشياء الرمادية فلا موطئ ذكرى لها، كن أو لا تكن هي فلسفة الزمن ليبقيك في ذاكرته او يلقيك في مزبلته مع الرماد).
كان للمرأة حضور مميز بطابعها الفطري الاسطوري (الجنس، الإغواء ،المكر والدهاء) ولم يخرج حضورها عن هذه النمطية التي وضعها الروائي فيها، على الرغم من تعدد الصور لها داخل السرد،(دلال) بائعة الهوى حلم حواس المفقود، الدكتورة (حواء) التي أوكل إليها تدريب (حواس) على الصحافة في مجلة ألف باء، وكيف عملت على تغيير حياته برمتها حتى طال هذا التغيير اسمه فأصبح ( وسمان) بدل (حواس) ، مستخدمة المكر والدهاء والإغواء، وكان لاختيار الروائي اسم (حواء) له دلالات مثيولوجية في إشارة إلى مصطلح (وظيفة المرأة) كما ترجمه الدكتور طه باقر في لملحمة كلكامش..( تسلقت نظرتها برفق حول وردتي انفه المحمرتين، لاحظت أن أنفاسه توترت ، ونظرته غارت بعيدا .. في عمق الصدع الملتحم ما بين نهديها)، وقد امتلأ النص ببائعات الهوى وبنات الليل ومديرات الأعمال والسكرتيرات ، كانت السمة الغالبة على حراكهن داخل النص هو (الجنس).. ( أرخت السكرتيرة عروة الزر الأعلى في قميصها، لتتيح مساحة اوسع من نحرها للعيان، ابتسم وسمان ، أغمض عينيه ).
رواية (سفاستيكا) للروائي علي غدير هي محاولة جادة لتسليط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث، شاب أحداثها الكثير من الغموض ، وقد نجح الكاتب بإيجاد مخارج فكرية لها مستعيناَ بالسرد كأداة لتحقيق ذلك، ربما اقترب من الحقيقة بصورة كبيرة لكنه لم يلامسها ، فدائما هنالك جزء من التاريخ يصعب علينا اكتشافه أو تفسيره، لذلك نجد ان هنالك شيء من المبالغة في تعميق مفهوم نظرية المؤامرة في الرواية وهي على ما أظن وجهة نظر الكاتب الشخصية، كما في مشهد مطابقة حروف اسمه الجديد ( وسمان) مع أرقام العملة الورقية التي احتفظ بنصفها لعدة عقود، ليكتشف أن الاسم هو ( ماسون) في إشارة إلى دور القوى الكبرى في صناعة القادة بطريقة تخدم مصالحها السيتراتيجية، لذلك يبقى كل ما نقرئه ونبحث به، ما هو الا إسقاطات فكرية لرؤية شخصية للتاريخ تختلف من شخص الى اخر، وشماعة يعلق عليها الكاتب رؤاه وأفكاره وفلسفته الحياتية ونظرته الشخصية لأحداث التاريخ.. لكن على الرغم من كل ذلك، فقد أجاد الروائي علي غدير في مزاوجة رؤيته للتاريخ بواقعية سحرية أضفت طابعاَ جمالياَ فريداَ على أحداث الرواية.