18 ديسمبر، 2024 5:08 م

فلنعتذر عن تأميم قناة السويس خطيئة عبدالناصر

فلنعتذر عن تأميم قناة السويس خطيئة عبدالناصر

عبدالناصر ظاهرة معقدة، كان يستدعي عالم الاقتصاد إسماعيل صبري عبدالله السجين، للتشاور في قضية اقتصادية، ثم يعيده إلى السجن، وفي عصر السادات تولى عبدالله وزارة التخطيط، وظل مؤمنا بعبدالناصر في العدالة الاجتماعية.
لا أحب قراءة مقالات ترد على غيرها؛ لأنها تنطلق مما تراه “الحقيقة”، وتنأى عن مفهوم النقاش، وتوحي إلى القارئ بأن اللغة العربية ضيقة الصدر فلا تتسع لفكرة الاختلاف، وإنما تسارع إلى كيل السباب والاتهامات واللكمات، وفي أحسن الأحوال ترمي بأحكام قاطعة، مثل تلك التي أطلقها الأستاذ خيرالله خيرالله على جمال عبدالناصر قائلا إنه كان “يمتلك كمّية لا بأس بها من الغباء والجهل”.

وحين أصفه بالوغد فلأن بيني وبينه تاريخا من العداوة والبغضاء يغطي أول 25 عاما من حياتي. إلا أنني الآن، بعد 25 عاما أخرى من الشك، لا أجرؤ على إطلاق صفتي “الغباء والجهل”، بأي درجة أو كمية، على عبدالناصر أو خيرالله الذي لم يخصص مقاله “تاريخان لانتهاء العراق وسوريا” في “العرب”، 10 مارس 2017، لعبدالناصر، ولكنه حين يتصدى لأزمة فلا بد أن يحضُر عفريت عبدالناصر.

لم يقدم عبدالناصر لأبي شيئا يدعوني إلى الترحم عليه. حين وزعت وسايا الإقطاعيين مصاصي عرق الفلاحين وأعمارهم، كان اسم أبي تاليا لاسم فلاح يسبقه في قائمة انتظار، ونفدت أرض الإصلاح الزراعي في قريتنا. ولم أسمع صوت عبدالناصر لأني ولدت عام 1966، وليس في دارنا راديو أو كتاب.

وفي الصبا “اهتديت” إلى مجلة “الدعوة” الناطقة باسم الإخوان، كانت يقينا، بل هي “اليقين” الذي رسخ في نفسي كراهية عبدالناصر، والإيمان بأنه لعنة القرن العشرين على الإسلام، وأكثر سوءا من فرعون، وأنه غير مسلم.

وفي الشهور الأولى بجامعة القاهرة، انتظرتني مفاجأة صادمة، فعبدالناصر، الذي تأكد لي كفره، له أنصار، مثله “ضالّون” يقال لهم “الناصريون”. وكم اشتبكت، وأنا على دين الإخوان، مع زملاء ناصريين خاصمتهم وقاطعتهم، وسخرت من معارض للكتب في كلية الإعلام وفي حرم الجامعة، لأنها تعرض كتبا تشيد بزعيم سجن الإخوان والشيوعيين، ولم تتسع له مصر؛ فبحث عن مغامرات ترضي طموحه، في سوريا واليمن، فأضاع سيناء والضفة والقدس والجولان.

وقال لي عبدالصبور شاهين إن عبدالناصر اتفق مع اليهود، أثناء حصار الفالوجا عام 1948، على أن يسهل لهم الاستيلاء على فلسطين، وإنهم كافأوه مباشرة بإرسال الطعام والفاكهة إليه في المعسكر.

كان كلامه الساذج يجد في نفسي هوى، ويغذي سعيا جديدا لإثبات الكفر الوطني، بعد ثبوت الكفر الديني، بالحرص على سماع أشرطة عبدالحميد كشك، واقتناء كتب دعائية لا يذكرها الآن أحد أو يرجع إليها، مثل “قال الناس ولم أقل في حكم عبدالناصر” لعمر التلمساني.

لازمني كرهي لعبدالناصر حتى بعد التخرج، على الرغم من تخففي كثيرا من التواصل مع مصادر إخوانية، وتجفيف منابع التشدد، وتخصيص الوقت والجهد لقراءة التاريخ والأدب والنقد، وكتابة القصة القصيرة.

في الجامعة نشرت قصصا في منابر ليبرالية وماركسية. ثم فكرت، من باب معرفة العدو، في إعادة النظر في الرجل، وقابلت عددا من ضحايا سجونه، ومنهم محمود أمين العالم وأحمد فؤاد نجم الذي هجاه وسخر منه حيا وترحم عليه ميتا، وكان يعتبره من سلالة الإمام علي.

ولم يكن فؤاد حداد خريج المعتقل مجبرا على نشر ديوانه “استشهاد جمال عبدالناصر”، ويسهل الاستماع إليه بصوت الشاعر في موقع يوتيوب. أما يوسف صديق الشريك الأبرز في ثورة 1952، والذي سجن بعد عامين لبضعة أشهر، فكان يعالج في موسكو عام 1970، ورثى عبدالناصر بقصيدة يقول مطلعها “أبا الثوار هل سامحت دمعي/ يفيض وصوت نعيك ملء سمعي”.

لا علاقة للأستاذ خيرالله بهذه التفاصيل، ولا أسعى إلى معرفة سبب ثأره الشخصي مع عبدالناصر والحبيب بورقيبة وهواري بومدين، ولا يعنيني وفاؤه للبعض من رموز الرجعية والتبعية، كأن يرى أنور السادات “شخصا استثنائيا”، افتئاتا على حق الشعب المصري في تقييم رموزه، وشهادات “ثقات” لا يسارعون إلى إطلاق الأحكام، ويزيدون حيرتنا؛ فعبدالناصر ظاهرة معقدة، كان يستدعي عالم الاقتصاد إسماعيل صبري عبدالله السجين، للتشاور في قضية اقتصادية، ثم يعيده إلى السجن، وفي عصر السادات تولى عبدالله وزارة التخطيط، ولكنه ظل مؤمنا بتجربة عبدالناصر في الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية ووفيا لصاحبها.

أما السادات فيكفي حكم شعبه عليه، واستقالة ثلاثة من وزراء الخارجية اعتراضا على أوهام “السلام”، أولهم إسماعيل الذي كتب شهادته بادئا بانتقاد عبدالناصر، واستقال احتجاجا على زيارة السادات القدس.

ولم أقرأ للوزير الثاني محمد رياض شهادة، وقد استقال فور تعيينه وزيرا. أما الثالث محمد إبراهيم كامل الذي استقال في كامب ديفيد تاركا مقعده شاغرا فكان صديق السادات منذ واقعة اغتيال الوزير أمين عثمان عام 1946.

ومن المؤكد أن الثلاثة لم يجتمعوا في كل استقالة للتآمر على السادات وإحراجه، ولكنه الالتزام الوطني الذي كان سيعفينا مرارة خروج العرب من التاريخ، وإبعاد مصر عن العرب، ومهانة شعرت بها عام 1990، وأنا مجند في آخر موقع يسمح فيه للجيش المصري بالانتشار في سيناء، خطأ، وليس كل شيء يقال، ولكن ما لا يمكن إنكاره أن ثمن “السلام” فادح وفاضح، ونتجرعه إلى اليوم دما في رفح والعريش، منذ “عودة” سيناء منزوعة السلاح إلا قليلا.

لا يجري التاريخ باستقامة أحادية، وقراءته تحتمل تـأويلات تكافئ هذا التعقيد. لست الآن بصدد مناقشة معاهدة 1936، ولكن الشعب هتف لمصطفى النحاس وهو يعلن إلغاءها عام 1950، قبل ست سنوات على انتهائها رغم ما ترتب على ذلك من دماء.

وكانت قناة السويس وجعا في صدور أجيال من المصريين؛ فمنها دخل جيش الاحتلال البريطاني عام 1882، وفيها استقرت القاعدة العسكرية البريطانية وسالت دماء الشرطة عام 1952، وبين التاريخين قام إبراهيم الورداني بقتل رئيس الوزراء بطرس غالي عام 1910؛ لموافقته على تمديد امتياز شركة قناة السويس 40 سنة أخرى، لتنتهي عام 2008 بدلا من 1968.

لم ينس الأستاذ خيرالله، حتى في مقال عن العراق وسوريا، أن يذكرنا بخطيئة لعبدالناصر، في “انتصار وهمي اسمه تأميم قناة السويس في 1956… هل كان تأميم القناة أمّ الكوارث؟”. ولم يكن ينقصه بعد ما ظنه انتقاصا من عبدالناصر، إلا أن يختم المقال بحمد الله، “وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين”، وأقم الصلاة.

نقلا عن العرب