تعمل أميركا دوماً على توظيف قوتها العسكرية الضخمة من اجل إدامة هيمنتها ونهبها الاستعماري وتدعيم وضعها الإمبراطوري للقرن الحادي والعشرين عبر إيجاد حضور عسكري ومخابراتي ذكي وخفي أحياناً يفرضه صراع المصالح والمحاور الدولية ومتطلبات الاقتصاد والأمن العالميين .
ما جرى ويجري في العراق بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة يؤكد هذه الحقيقة فلم يكن التدخل الأميركي الواسع مجرد رغبة أميركية لتنظيم الأوراق وترتيب الأولويات العراقية بالتنسيق مع القوى الداخلية المهيمنة على المشهد السياسي من خلال إعادة رسم خارطة سياسية وبناء المنظومة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية بطريقة مؤسساتية مهنية على أسس عراقية وطنية بقدر ما كان هذا التدخل الشامل محاوله لإعادة إنتاج الواقع السياسي وتغيير معادلاته بما سينعكس على ملحقاته ومساراته العسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية تمهيداً لتغيير ديموغرافي عبر تحويل العراق من ملعب ثانوي في ظل الأزمة السورية إلى ملعب رئيسي للصراعات الإقليمية والدولية ترسم من خلاله أمريكا خارطتها الجيو – سياسية للمنطقة وتلتحق معه البيئة السياسية العراقية والتوجهات الاجتماعية والاوضاع الاقتصادية تماما بالقطار الأميركي بعد الانتهاء من تحطيم القدرات والمرتكزات الوطنية العراقية عبر تشكيل حكومة “الصفقة” العراقية وفرض الأجندات الأميركية عبر الضغوط الخارجية والأدوات الداخلية من خلال ما سُمّي بـ”وثيقة الاتفاق السياسي” التي تنطوي الكثير من مفرداتها على صواعق تفجير موقوتة ومزمنة عديدة ليس أولها الاتفاق على قانون تشكيل الحرس الوطني “الطائفي” و “المناطقي” الجديد.
سددت الإرادة العراقية الوطنية حديثة التشكل بعد دخول قوى المقاومة المباشر على خط الازمة ضربة مباشرة ومفاجئة للمسار الأميركي في العراق عبر “لكمة” آمرلي الجانبية، ما دفع أميركا وعلى عجل لإعلان حلفها المزعوم “لمحاربة” الإرهاب الذي خططت له بعد هزيمة ادواتها في معركة القصير السورية، فعملت طوال ما يقرب من شهرين من انطلاق هذا الحلف بحسب المعطيات الواقعية والحقائق الميدانية على حماية ورعاية تنظيم داعش ومواصلة استثماره كأداة في خططها السياسية والعسكرية خدمة لمصالحها الإقليمية وأهدافها الجيو – سياسية وتوظيفه من أجل تدعيم الخيار العسكري عند الحاجة.
تغيّر المعادلات على الأرض بسرعة قياسية بفعل الجهد العسكري الوطني العراقي المسنود بفصائل المقاومة وبالدعم الإيراني فضلا عن الروسي فاجأ الإدارة الأمريكية وأربكها لما سيتركه من تداعيات على المعادلة السياسية الجديدة بمقاساتها الاميركية بعد الفصل الداعشي المنتهية صلاحيته قبل إتمام دوره، فبعد انقلاب مزاج البيئات الحاضنة لداعش وسقوط أكاذيب التهديدات الإرهابية لبغداد “صناعة الأعداء” ، بات من الضروري المباشرة بالجولة الثانية من المنازلة وفق تكتيكات جديدة تقوم على ضرورة زيادة عدد جيش المستشارين لتدعيم الوضع على الأرض، ومضاعفة النشاطات الاستخبارية والجهود التجسسية ورفع منسوب الطلعات الجوية لقطع الطريق على الجهود العسكرية العراقية وإثارة الأزمات وصناعة العوائق أمامها لإنقاذ الطبخة الاميركية المهددة بالاحتراق في “الفرن” العراقي.
ليس ما يجري هو انعكاس مباشر لفوز الجمهوريين الأخير في الانتخابات النصفية الأميركية الأخيرة، فالسياسات الأميركية الخارجية خصوصا، تُبنى على أسس استراتيجية ثابتة لا تتغير بتغير الحزب الحاكم، وانتماء الرئيس القادم، فالإدارة المسؤولة مكلفة بتنفيذ الاستراتيجية الأميركية ومعنية بابتكار طرق وأساليب وآليات مرنة ومتحركة جديدة بحسب المتغيرات والأحداث الدولية والإقليمية المستجدة وبناءً على المعطيات الميدانية التي تؤكدها التقارير المخابراتية.
الآثار الاقتصادية الضخمة الناجمة عن هزيمة أميركا في العراق وحربها في أفغانستان التي بلغت تكلفتهما ثلاثة تريليونات دولار تركت تداعياتها على التفكير الاستراتيجي العسكري الأميركي إذ أشرت حدوث تحولات جوهرية على طريقة معالجة المؤسسة العسكرية الأميركية – التي ترتبط ارتباطا وثيقا بفلسفة السياسة الخارجية – للمستجدات والأحداث العسكرية والأمنية الخارجية، إذ تبدو الساحة العراقية المصداق الأبرز والأحدث لهذه التحولات، هذه الاستراتيجية التي تقوم على تقليص حجم الجيش الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية بصنوفه البرية والبحرية والجوية وحتى قواته الاحتياطية وحرسه الوطني بناء على فكرة “جيش أصغر وأذكى” التي فرضتها تكتيكات حروب “الجيل الرابع” التي تقوم على توظيف ماكر من خليط ثنائي “التقنية المتقدمة” و “صناعة الإرهاب” في إطار سياسة تعويم الحروب وما سُمي مؤخرا بالحروب “المركبة” التي لا تتمايز ميادينها العسكرية والأمنية والمخابراتية عن ميادينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذ تنطوي كل هذه المفردات تحت خطة شاملة تقوم على الاستخدام الكامل للأدوات التقليدية وغير التقليدية التي تعمل على تعدد محاور الاستهداف وتنوع أساليب المواجهة بما يشتت الجهود المضادة ويربك الخصوم.
“تكتيكيا” تأتي خطوة زيادة عديد المستشارين بعد الفشل الأميركي في الجولة الأولى من المنازلة بين أميركا والإرادة الوطنية العراقية و”استراتيجيا” تأتي في إطار إعادة قراءة مفاهيم الحرب والقوة والعسكرة الأميركية عبر المزج بين مفهوم القوة الناعمة والقوة الصلبة في إطار ما سُمّي بـ”القوة الذكية” والحرب “المركبة”.