قيل الكثير عن الكرم وضده النوعي البُخل، وتباينت الآراء بين من عدّ الكرم سجية صحراوية اقتضتها ظروف البيئة المُقفرة والتي دعت البشر لتقاسم ما بين أيديهم من طعام وشراب خشية الفناء جوعًا وعطشًا، وهذا هو التفسير الذي روج له بشكل صريح بعض كُتّاب ومثقفي العصر العباسي الأول والوسيط من الفرس، في زمن أطلتْ فيه الشعوبية برأسها وأثارت جدلا مُحتدمًا حول مثالب العرب ومناقبهم، فيما ذهب البعض الآخر لعدّه سجية حميدة وخصلة تدل على مروءة وسمو أخلاق صاحبها، وأنها ليست قرينة البيئة الصحراوية فقط بل إن وجودها يفرض نفسه في البيئة الحضرية أيضًا.
وفي وسط هذا الصِدام الفكري كتب الجاحظ كتابه “البخلاء” ليُبرز صور تَفنن هذه الملة ـ غير الكريمة ـ في الإقتار وفي تدبير أمور حياتها اليومية بأقل قدر ممكن من الإنفاق، وكأن البخل عندهم فلسلفة وأسلوب حياة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في يومياتهم إلا وكان له بصمة فيها، وليس مجرد خِلة قد تبرز في موقفٍ دون آخر. وتَضمن “بخلاء” الجاحظ شيء من دفاع هؤلاءِ البخلاء عن مسلكهم ومنهجهم في الحياة وكيف أنهم ـ حسب وجهة نظرهم ـ يحمون أنفسهم من الفقر ومن ذُل الحاجة للآخرين واستجدائهم.
وعلى صعيدٍ منفصل، وفي قراءتي لكتاب “اعترافاتي” للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو وقفتُ على ما يُشبه هذا الرأي في حديث روسو عن اطباعه الشخصية. والمُلاحظ في كتاب روسو أنه يهتم بالحديث عن جانبين لا تكاد تخلوا فصول الكتاب من الإشارة إليهما، أولهما حديثه الدائب عن الحرية، تلك الحرية التي دفعته وهو ما يزال غرًا لترك والده ومسقط رأسه جنيف والسير في طريق مجهولة النهاية والغاية، ولكنها تضمن له على الأقل حُرية التصرف والعمل بلا رقيب أو حسيب!
فالحرية بقيت شغله الشاغل ومدار فكره على امتداد مراحل حياته المختلفة، والأمر الآخر الذي شغل اهتمامه هو البُخل، فلا يكاد حديثه عن شخصية من الشخصيات العامة أو الخاصة التي تطرق لها يخلوا من تقييم درجة بخله أو كرمه، وإن كان لا يقصد البخل المادي حصرًا بل امتد حديثه ليشمل البُخل العاطفي والشُح الأخلاقي.
غير أنّه يتوقف في مواضع عديدة للحديث عن سمة البُخل التي وصم هو ذاته بها، ويقّر بأنه قد عاش حياته ومن فترة مبكرة بتقشف، ولكن هذا البُخل ليس نابعًا عن طبع وسجية أصيلة في ذاته، بل هو وسيلة اتخذها روسو لحماية نفسه من ذُل السؤال وضمان حريته، ذلك أنه أشار في غير موضع من اعترافاته بأن احساسه بامتلاء كيسه بالمال يُشعره بالحرية وبأنه ليس محتاجًا للقيام بأعمال لا تروق له ولا لتملق شخصيات لا يطيقها في سبيل كسب عيشه، وإن خلو كيسه من المال يعني فقدانه للحرية واضطراره للعمل في ميادين بعيدة عن هواه وميوله الطبيعية، ولهذا فإن البُخل والشح والإقتار في الإنفاق قد صارا سجية من سجاياه، وإن كانتا لم تتجاوزا الحدود المعقولة والطبيعية.
وهذا ما يدفعنا للقول بأن البُخل الشخصي الذي عاش فيه بعض بُخلاء الجاحظ وشاركهم فيه روسو لم يكن إلا وسيلة ظنوها تحميهم مما هو أسوء منها، إنها ـ من وجهة نظرهم ـ، خلة سيئة اضطروا إليها ولم يختاروها عن رغبة. وإنّ ما تقدم يدفعنا لإعادة النظر لبعض الخِلال على أنها ليست سجايا شخصية مُجردة بل قد تحمل بُعدًا ثقافية اوسع يتعلق بميول وطبائع الشعوب، كما أن حامليها لا يتساوون في التصنيف، فهم متباينون بين مَن أدمنها عن طيب نفس وبين مَن أُكره عليها.