23 ديسمبر، 2024 3:12 م

تهدف فلسفة المعرفة إلى تحليل المعرفة و البحث في إمكانية الحصول على المعارف. لكن يبدو أن النظريات المختلفة في تعريف المعرفة تفشل ما يستدعي طرح فكرة ممكنة مفادها أن المعرفة غير مُحدَّدة ما هي و ما طبيعتها تماماً كما تؤكد السوبر حداثة.

     تبدأ فلسفة المعرفة بتحليل أفلاطون للمعرفة وهو التالي: المعرفة هي اعتقاد صادق مُبرهَن عليه. هذا يعني مثلاً أننا نعرف أن الأرض تدور حول الشمس إذا وفقط إذا الأرض تدور حول الشمس، ونحن نعتقد ذلك ولدينا برهان أو براهين على صدق اعتقادنا هذا. لكن الفلسفة المعاصرة اظهرت فشل هذا التحليل التقليدي للمعرفة، واشتهر الفيلسوف غيتر بنقده له. من الممكن تقديم نقده على النحو التالي: لنتصوّر أننا ننظر إلى ساعة الجامعة فنرى أنها تشير إلى أن الوقت هو الواحدة ظهراً، و لنتصوّر أننا نملك برهاناً قوياً على صدق اعتقادنا بأن الوقت هو الواحدة ظهراً لأننا كنا نعتمد على تلك الساعة في معرفة الوقت وكانت تلك الساعة تشير دائماً إلى الوقت الصحيح , و لنتصوّر أن بالفعل الوقت هو الواحدة ظهراً. لكن الحقيقة هي أن تلك الساعة معطلة، وقد تعطلت البارحة حين كانت تشير إلى الواحدة ظهراً وأنها مجرد صدفة أننا اليوم نظرنا إلى تلك الساعة حين كان الوقت حقاً الواحدة ظهراً. الآن , بما أن تلك الساعة معطلة، إذن نحن لا نعرف أنها الواحدة ظهراً؛ فمجرد الصدفة جعلتنا ننظر إلى تلك الساعة حين الوقت كان حقاً الواحدة ظهراً وبالصدفة فقط توقفت البارحة تلك الساعة مشيرة إلى الواحدة ظهراً. على هذا الأساس لدينا اعتقاد صادق مُبرهَن عليه بأن الوقت هو الواحدة ظهراً , لكن ليس لدينا معرفة بأن الوقت هو الواحدة ظهراً ؛ فالوقت هو الواحدة ظهراً ونعتقد بذلك ولدينا برهان على ذلك لكننا لا نعرف أنها الواحدة ظهراً لأننا اعتمدنا في تشكيل اعتقادنا على ساعة معطلة . هكذا يُظهر غيتر خطأ تحليل المعرفة على أنها اعتقاد صادق مُبرهَن عليه (John Pollock :  Contemporary Theories of Knowledge .1986.     Rowman & Littlefield Publishers).

     ثمة نظريات أخرى في المعرفة منها نظرية الانسجام التي تقول إن معتقدنا يشكّل معرفة متى انسجم مع معتقداتنا الأخرى كافة. هكذا يكون النظام الفكري الذي يُكوّن معرفة هو النظام الحاوي على معتقدات منسجمة فيما بينها. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المذهب كامنة في أن من الممكن أن تنسجم معتقداتنا فيما بينها من دون أن تنجح في التعبير عن الواقع، وبذلك لا تشكّل معتقداتنا المنسجمة حينها معرفة حقة. فمثلا ً , نظرية أرسطو في تفسير الكون منسجمة لكنها لا تشكّل معرفة ؛ فالشجرة ليست شجرة بسبب اتخاذها صورة Form) ) الشجرة على نقيض مما تقول نظرية أرسطو. ومشكلة أخرى تواجه هذا الموقف هي أن من الممكن وجود أنظمة فكرية مختلفة ومتعارضة فيما بينها رغم أن كل نظام منها منسجم ذاتياً. مثل ذلك أن نظرية النسبية لأينشتاين أفكارها منسجمة فيما بينها لكنها تعارض وتناقض نظرية ميكانيكا الكم المنسجمة الأفكار أيضاً. وبذلك يستحيل على ضوء الانسجام الفكري فقط أن نتمكن من الحكم على أية نظرية أو نظام فكري هو الذي يشكّل معرفة حقاً دون نظام فكري آخر. ومن النظريات الأخرى التي طرحها الفلاسفة نظرية الأسس في المعرفة التي تقول بوجود بعض المعتقدات الأساسية التي لا تحتاج إلى برهنة لأنها بديهية، وعلى ضوء تلك المعتقدات تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى ويتم تشكيل المعرفة. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المذهب قائمة في أنه لا يوجد معيار على أساسه نتمكن من اختيار ما هو بديهي و أساسي من المعتقدات ؛ فما هو بديهي بالنسبة لهذا الفرد قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى فرد آخر (المرجع السابق).

     من مذاهب المعرفة أيضاً مذهب يدعي أن الاتفاق على قبول معتقد ما يجعله معرفة وعلى أساسه تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى فنكتسب المعارف. ومشكلة هذا المذهب أنه لا يوجد ضامن يضمن أن مجرد اتفاقنا على معتقد معين يجعل هذا المعتقد معرفة حقة ؛ فمن الممكن أن نتفق على ما هو كاذب بشكل دائم ومستمر. و لقد تطورت فلسفة المعرفة فنشأت النظرية السببية في المعرفة ومفادها التالي: معتقداتنا تشكّل معرفة متى كانت مُسبَّبة من قبل الوقائع في العالم. وهذا يعني أننا نعرف أن الأرض تدور حول الشمس إذا و فقط إذا كنا نعتقد بذلك ، وفعلا ً الأرض تدور حول الشمس ، و دورانها هذا هو سبب اعتقادنا بأنها تدور حول الشمس. هكذا نضمن ارتباط ما نعتقد بما هو في الواقع فنضمن المعرفة كما يزعم أصحاب هذه النظرية. لكن إحدى مشاكل هذه النظرية هي أنه لا يوجد ما يضمن أن العلاقات السببية تستلزم تحقيق المعرفة ؛ فمن الممكن أن تكون العلاقة السببية بيننا وبين العالم مُسبِّبة لمعتقدات كاذبة عن العالم و لذا اكتسبت الانسانية معتقدات كثيرة خاطئة عبر تاريخها. و النظرية السببية في المعرفة تواجه مشكلة أساسية أخرى هي التالية : معادلات الرياضيات و عناصرها كالأعداد مجردة و بذلك لا قدرة سببية لها لكونها مجردة. من هنا بالنسبة إلى النظرية السببية في المعرفة يستحيل علينا معرفة الرياضيات بما أن النظرية السببية في المعرفة تستلزم وجود علاقات سببية بيننا و بين العالم لتحدث المعرفة لكن الرياضيات لا ترتبط بنا سببياً لكونها مجردة. و نتيجة نظرية السببية في المعرفة ألا و هي أنه يستحيل علينا معرفة الرياضيات هي نقيض الواقع لأننا نعرف الرياضيات و معادلاتها و عناصرها كالأعداد. من هنا تفشل النظرية السببية في المعرفة (المرجع السابق ). 

     كل هذا يرينا فشل النظريات المختلفة في تحليل المعرفة ما يشير إلى صدق نظرية أخرى مغايرة للنظريات السابقة كافة ألا و هي نظرية السوبر حداثة. بالنسبة إلى السوبر حداثة , من غير المُحدَّد ما هو الكون و بذلك من الطبيعي أن تكون المعرفة غير مُحدَّدة أيضاً. و على ضوء لا محددية المعرفة تتمكن السوبر حداثة من تفسير لماذا تفشل النظريات المختلفة في تحليل المعرفة. فالنظريات المختلفة تفشل في تحليل المعرفة لأنه من غير المُحدَّد ما هي المعرفة. فبما أن المعرفة غير مُحدَّدة كما تقول السوبر حداثة , إذن من المتوقع أن تفشل كل النظريات الفلسفية في تحليل المعرفة. هكذا تفسِّر السوبر حداثة لماذا تفشل نظريات المعرفة كافة و بذلك تكتسب السوبر حداثة قدرة تفسيرية ما يدعم مقبوليتها.

     من المنطلق نفسه , تنجح السوبر حداثة في تفسير لماذا تتنوع المعرفة و تختلف. فبما أن من غير المُحدَّد ما هي المعرفة كما تؤكد السوبر حداثة , إذن من الطبيعي أن تتجسد المعرفة في تجسدات مختلفة و متعارضة كأن تكون اعتقاداً صادقاً مُبرهَناً عليه اختبارياً كما في العلم و أن تكون اعتقاداً صادقاً مُبرهَناً عليه منطقياً كما في الفلسفة و أن تكون مجرد اعتقاد صادق كما في حياتنا اليومية. هكذا تتنوع المعرفة و تختلف بفضل لا محدديتها. فلو كانت المعرفة مُحدَّدة ما هي لإتخذت ماهية واحدة فقط . لكن للمعرفة ماهيات مختلفة و متعارضة كما رأينا. و لذا المعرفة غير مُحدَّدة تماماً كما تصر السوبر حداثة. للمعرفة تجليات مختلفة. فمثلا ً , المعتقدات تشكّل معرفة في حقول العلوم متى يملك العلماء أدلة تبرهن على صدق المعتقدات من خلال الاختبار بينما في حقل الفلسفة لا تحتاج المعتقدات للبرهنة عليها من خلال الاختبار و إلا أصبحت معرفة علمية بدلا ً من معرفة فلسفية. بل تكتفي المعتقدات بأن تملك براهين منطقية على صدقها لكي تغدو معرفة فلسفية. أما في حياتنا اليومية فنحن نعرف ما حولنا من دون تقديم براهين على صدق ما نرى و نسمع و بذلك في الحياة اليومية المعرفة مجرد اعتقاد صادق. هكذا للمعرفة تجسدات متنوعة. و التفسير الوحيد لحقيقة أن للمعرفة تجسدات مختلفة هو أن المعرفة غير مُحدَّدة ما هي تماماً كما تقول السوبر حداثة ما يدعم مقبولية السوبر حداثة في فلسفة المعرفة ؛ فلو كانت المعرفة مُحدَّدة ما هي و ما طبيعتها لتجسدت المعرفة في طبيعة أو ماهية واحدة فريدة بدلا ً من أن تتجسد في تجسدات مختلفة.

      من جهة أخرى , قدّم الفيلسوف ديكارت الحجة القوية للمذهب الشكي على النحو التالي : من الممكن أننا نحلم و كل ما نختبر من حولنا ليس سوى مجرد حلم و بذلك لا معرفة لدينا. طبعاً رد ديكارت على هذه الحجة من خلال فلسفته الخاصة التي تفيد بأن بعض المعتقدات يستحيل الشك فيها بسبب شدة بداهتها و أضاف قوله المشهور ” أنا أفكر إذن أنا موجود ” كبرهان قوي ضد الشك المعرفي. لكن حجته السابقة الدالة على عدم وجود المعرفة استمرت كقضية أساسية في النقاش الفلسفي إلى يومنا هذا بسبب قوتها رغم بساطة صياغتها و أصبحت تعرَف على أنها الشك الديكارتي. فبما أنه من الممكن أننا نحلم بكل ما نختبر من حولنا إذن من الممكن أننا نحلم أيضاً بأننا نفكر و بذلك اختبارنا بأننا نفكر لا يكفل أننا موجودون و بذلك لا يدحض الشك بأننا نملك معرفة. لكن السوبر حداثة قد تطرح رداً مناسباً على الشك الديكارتي , و إن نجحت بذلك فهذا دليل على صدق مقبولية السوبر حداثة في فلسفة المعرفة.

       بالنسبة إلى الشك الديكارتي , من الممكن أن كل ما نختبر مجرد حلم. هذا يعني أن من الممكن أن الكون أو الوجود مجرد حلم تماماً كما من الممكن أن يكون الوجود أو الكون واقعاً. و بذلك من غير المُحدَّد ما إذا كان الوجود حلماً أم واقعاً. لكن عبارة أنه من غير المُحدَّد ما إذا كان الوجود حلماً أم واقعاً تعني أن الوجود يتقلب بين أن يكون حلماً و أن يكون واقعاً تماماً كما تتقلب الجسيمات كالألكترونات في نظرية ميكانيكا الكم بين أن تكون جسيمات و أن تكون موجات. و حين يتقلب الوجود أو الكون فيكون حلماً حينها المعرفة غير ممكنة بينما حين يتقلب الوجود أو الكون فيكون واقعاً حينئذٍ المعرفة ممكنة. و بذلك من غير المُحدَّد ما إذا كانت المعرفة ممكنة أم غير ممكنة. لكن عبارة أن ” من غير المُحدَّد ما إذا كانت المعرفة ممكنة أم لا ”  تعني أن المعرفة تتقلب بين أن تكون ممكنة و أن تكون غير ممكنة تماماً كما يتقلب الألكترون بين أن يكون جسيماً و أن يكون موجة بدلاً من جسيم فيتصرف على أنه جسيم و موجة في آن. و بما أن المعرفة تتقلب بين أن تكون ممكنة و أن تكون لا ممكنة , إذن المعرفة ممكنة ؛ فحين يتقلب الكون فيكون حلماً تغدو المعرفة غير ممكنة بينما حين يتقلب الكون فيكون واقعاً تغدو المعرفة ممكنة. هكذا بالنسبة إلى السوبر حداثة المعرفة ممكنة ما يكفل الرد على الشك الديكارتي ؛ فمن خلال القول بأنه من غير المُحدَّد ما إذا كانت المعرفة ممكنة أم لا تصل السوبر حداثة إلى نتيجة إمكانية حصولنا على المعرفة. من هنا الشك المعرفي ينقلب ليصبح دليلا ً على إمكانية الحصول على المعرفة. شك بلا معرفة شك ناقص , و معرفة بلا شك معرفة عمياء.