22 ديسمبر، 2024 11:14 م

فلسفة الكسل عند نيتشه

فلسفة الكسل عند نيتشه

ليس هناك شيء افضل من اخذ إجازة من العمل، والاسترخاء في احد شواطئ جزيرة باهاماس، وعدم فعل أي شيء. مع وجود كميات وفيرة من الشراب والمكسرات والسندويشات بمتناول اليد، وفي اليسار امرأة احلامك التي تناديها زوجتك، هذه هي فعلًا قمة المتعة في الحياة والانغماس في الملذات. فهناك شيء ما يجعل الكسل جذابًا جدًا للجميع (حتى بالنسبة للحيوانات)، لعله ميكانيكية وراثية للحد من اهدار الطاقة لأفعال غير ضرورية (عدا النمو والتكاثر)، أو لعله خيارٌ شخصي لعدم التفاعل مع الأمور التافهة. مهما كانت غرابة الأسباب للكسل، فإن فلسفته أغرب من ذلك بكثير.

الكسل هو عدم القيام بفعل أشياء تتطلب جهدًا وتصدر عنها مشاعر سيئة بدائيًا، أفعال مثل تمارين الرياضة التي تُفرض على المتمرن صرف طاقة والشعور بالألم في العضلات في البداية. وهم يختلفون عن المرضى النفسيين (مثل المكتئبين) بنشاطهم في الاكل وممارسة “عمليات التكاثر” ولعب العاب الفيديو التي غالبًا يمتنع المكتئب عن فعلها. يرفض العديد منا مبدأ صرف الطاقة لحفظ طاقةٍ اكبر، أي التعب قليلًا للاستراحة طويلاً، أينما وجد هذا المبدأ سواء في المدرسة أو في العمل، ليس لأننا جهلة لا نعرف مصلحتنا المستقبلية، بل لأنه يبدو طبيعيًا للغاية التكاسل عن فعل مثل هكذا أفعال، حتى إن القيام به يجعلنا نشعر بغرابة عن ذاتنا.

هذا ما كان يفكر فيه الفيلسوف الاغريقي دايوجينيز وما يدعو إليه مذهب الكلبية – الذي أُنشئ على غرار فلسفته – إن الطبيعة هي افضل مكان يمكن ان يتواجد فيه الانسان، وعلى الانسان أن يتجرد من جميع قيم المجتمعية الزائفة سواء معنوية مثل اخلاقيات والشرف والفخر أو المادية كالمال والبيت والملبس، ويرجع الى ما كان عليه الانسان البدائي الذي عاش بتناغم مع بيئته، نام حيث ما شاء، اصطاد عندما جاع، وارتحل حينما ضاق عليه المكان. أما غالبية الأوقات فيقضيه في كسل تام مرتاحًا تحت ظل شجرة منتظرًا وجبته القادمة، لا عمل، لا تفكير، لا أحد.

كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844–1900) مطلعًا جدًا على الفلسفة الاغريقية (في الواقع، كان يُدرسه في جامعة باسيل بعمر 24 سنة)، وكان معجبًا بدايوجينيز الى درجة انه وضعه كأحد الشخصيات البطولية في كتابه العلم المرح، وقد حاول نيتشه العيش ضمن مذهب الكلبية حيث ترك وظيفته كمدرس جامعي وعاش وحيدًا مرتحلًا بين هنا وهناك. إلا إنه كره شيئًا واحدًا عن الكلبية وهو الكسل، ولفهم السبب علينا أن ندرس تطور الرجل عند نيتشه. حيث ينقسم الرجل الى قسمين:

1- الرجل الخارق (سوبرمان): إنه رجل الذي عنده العديد من الأهداف والطموحات في هذه الحياة، إنه رجل الأفعال يحقق الكثير لنفسه، إنه رجل يحتكم الى عواطفه أولًا (داينوسي) والى غريزته بدلاً من التفكير والاحتكام الى العقل أولًا (ابولي)، إنه رجل لا يقلق بالمستقبل البعيد ولا الماضي الذي مضى لأنه يعيش اللحظات فقط، إنه رجل محارب لا يتنازل عن حقوقه ببساطة، إنه رجل شرس لا يهمه معايير المجتمع واخلاقيات الانسان ومبادئ الحضارة ان اصبحت عائقًا في طريق احلامه، إنه رجل نشط لا يرضيه القليل ولا يقتنع بالحاضر. هذه الاحلام والاهداف التي يملكها هي دنيوية وبسيطة مثل اشهى الأطعمة وافضل النساء والسعي وراء الثروات المادية والشهرة والرتب الاجتماعية.

2- الرجل الأخير: هذا النوع من الرجال هو نسخة معاكسة للرجل الخارق، فهو رجل عدمي لا يملك قيم ومعاني للحياة، وهو رجل كسول بمعنى الكلمة وخامل الى درجة، كل همه هو النمو والتكاثر (الاكل والجنس) والنوم والراحة، لا يستطيع ان يتطور إلى شيء عظيم ولا يمكنه الاستكشاف والمغامرة من اجل شعور جديد، لا يخاطر للمزيد وراضي بالقليل، بالكاد يتحرك من مكانه الى مكان اخر، لا الموت يخوفهُ ولا الحياة يثيره.

اعتقدَ نيتشه إن المجتمعات الغربية متوجهة نحو مساعي الرجل الأخير تاركاً الرجل الخارق في الماضي بعد بلوغ تلك الأهداف، أي بعد أن يبلغ الانسان مراده يبدأ بالخمول والعزوف عن الحياة، وهو ما تذهب اليه الحضارات بالفعل حيث إننا مع كل اكتشاف علمي جديد واختراعات آلية جديدة نكسب لأنفسنا المزيد من الوقت للراحة والاسترخاء بدلا من العمل، وستستمر هذه تطورات التقنية حتى نصل الى مرحلة عدم القيام بأي عمل واشباع حاجاتنا ورغباتنا بضغطة زر واحدة دون القيام من الفراش، نتحول حينها من الرجل الخارق الى الرجل الأخير، فنتكاسل عن الحياة ومعانيها وقيمها. إذًا، ما تحتاجه هذه المجتمعات الآن التي هي في طريقها نحو الرجل الأخير هو رسول ينذرهم عن منتهى غايتهم ثم يبشرهم بحياة أفضل حينما يتبعون مبادئ الرجل الخارق، هذا هو جوهر كتاب نيتشه (هكذا تكلم زاردشت) الذي جعل فيه زاردشت ذلك الرسول.

بالإضافة الى ذلك، واحدة من أسباب التي جعلت نيتشه يكره الكسل هو ارتباطه بالعبيد، أخلاق العبيد تحديدًا. القناعة والرضى بسوء الحال والفقر المادي لم يكن مفضلاً عند نيتشه، هؤلاء الذين قنطوا من الحياة وسافرت ارواحهم الى العالم الاخر ولا يطمحون فيها الا البقاء على قيد الحياة لإعادة نفس الروتين في الغد: الاكل، العمل، الجنس، والنوم. النشاط والمغامرات والسعي وراء الاحلام والاهداف وعمل شيء مفيد هو من صفات الأغنياء أو الأسياد كما سماهم نيتشه، وبما إن الفقراء لا يستطيعون فعل ذلك وأخذ معنى من الحياة وقيم مفيدة منها فهم يلجئون الى التقليل من شأن تلك الأهداف والاحلام والاعمال، فكل ما يقدرهُ الغني ويراه قيمًا يسقطهُ الفقير والعبيد، مثل قيمة المال الذي يراه الغني مهمًا بينما ينظر اليه الفقير كأساس الشر ليقنع نفسه بالقليل منه، ويستمر هكذا إلى أن يفقد الفقير (العبيد) كل قيم الحياة الحقيقية (ما عدا الأساسيات مثل الاكل والجنس) ويصبح كسولًا وخمولًا لان لا شيء يحفزه للقيام من سريره بعد ذلك.

نلاحظ إن الرجل الخارق يمثل مرحلة العمل والطموح والكون في خضم تحقيق الاحلام، وإن الرجل الأخير يمثل مرحلة ما بعد إنجاز العمل وتحقيق الاحلام. هذا يعني إن الإنسان يكون رجلًا خارقًا بالنسبة لنيتشه عندما يكون مشغولًا في تحقيق أحلامه وفورما يتحقق ذلك الحلم او الهدف يتحول حينه الى الرجل الأخير. وطالما هو مشغول في حلم ما مضحيًا راحته ودافعًا ثمن ذلك الحلم بالمشاعر البدائية السيئة كالألم فهو بخير. وحالما ينفذ أحلامه وينتهي أهدافه ويتلاشى معاني الحياة الحقيقية يصبح مباشرةً خاملًا وبعدها يبدأ بالبحث عن معاني وهمية للحياة مثل الدين في نظر نيتشه. يجب إذًا أن يشغل الانسان نفسه بأهداف أخرى جديدة حينما يحقق تلك الأهداف، شرط أن تكون هذه الاحلام والاهداف مرتبطة بالواقع ومفيدة للفرد.

لم يكن الفرد فقط الذي يقلق نيتشه من الانهيار والوقوع في فخ الكسل والخمول، بل الحضارات بأكملها، خصوصًا حضارات الغربية الأوروبية التي كانت في القرن الذي عاش فيه نيتشه في قمة الثورة الصناعية وتطورات التقنية مما جعل الانسان المعاصر اكثر راحةً من سابقه. رؤيا نيتشه لهذه الحضارات أمست مهولة بعد إن فهم قيمهم الشهوانية قصيرة المدى، الشيء الذي كانوا يمجدوه هو المزيد من الوقت لهم من اجل الكسل والراحة :

” أعطينا هذا الرجل الأخير يا زاردشت ” يقول أهالي قرية التي كان يحذرهم الرسول زاردشت من سوء مصيرهم إذا استمروا على نفس المبادئ، ” حولنا إلى هذا الرجل الأخير، وبعدها نقدم لك الرجل الخارق كهدية “. – من كتاب هكذا تكلم زاردشت

نحن نعيش في عصرٍ يعدُ مقدمةً لكابوس نيتشه، السيارات وطعام توصيلة والواقع افتراضي جميعها قادتنا نحو الركود والخمول، ومع التقدم العلمي باتت كل القيم والمبادئ ومعاني الحياة في خطر شديد، والعدمية تجول في كل مكان. هل سوف نستوعب أخيرًا ماذا يحدث ونغير من مسارنا نحو القيم العليا؟ أم سوف نبقى على طبيعتنا حتى نشبع رغباتنا ثم نقعد متربعين، خمولين، وكسولين إلى الموت؟ القرار لنا، لا نيتشه ولا رسوله زاردشت يجبرنا على التغيير.