دخل الأستاذ في إحدى كليات القانون القاعة الدراسية. الطلبة جالسون بأدب وينتظرون بدء الدرس. وضع الأستاذ أوراقه على المطاولة قرب السبورة البيضاء وبدأ يتطلع إلى الطلبة حتى راح ببصر يحدق بعيون طالب يجلس على مقعد في الصفوف الأولى من القاعة. بقي الأستاذ ينظر في عين هذا الطالب دون أن يرمش عيناه حتى أحس الطالب بنظرات الأستاذ الغريبة. اضطر الطالب إلى سؤال أستاذه:
– خيراً أستاذ لماذا تحدق بي النظر بهذه الصورة، هل أخطأت بشيء؟
أجابه الأستاذ:
– لماذا تتحدث مع زميلك وأنا واقف عليكم، ألا تشاهد دخول الأستاذ إلى القاعة؟
أجابه الطالب باستغراب شديد:
– لكنني لم أتحدث قط ولم أتفوه بكلمة وكنت جالسا انتظر أن تبدء الدرس؟!
الأستاذ لم يعر أهمية إلى جواب الطالب حتى قال له:
– غادر القاعة.
جميع الطلبة الجالسين مندهشين من تصرف هذا الأستاذ. فالطالب لم يكن يتحدث ليعاقب بالطرد من القاعة الدراسية وهو لا يستحق هذا العقاب أبداً. الطالب كان ينتظر قدوم الأستاذ حاله حال البقية من زملائه، لكن الأستاذ أصّر بطرده من القاعة وحرمانه من الدرس وحضور المحاضرة.
الأستاذ وبعد أن غادر الطالب الدرس بدأ يتحدث إلى الطلبة:
– على الجميع احترام الأستاذ واحترام الحصة. وإلاّ فليس لي أي مانع من أن اترك القاعة وأحرمكم جميعاً من الدرس أو طرد من أجده لا يلتزم بأصول المحاضرة.
استمر الأستاذ بالحديث بهذا الموضوع حتى تدخلت طالبة لتقاطعه:
– متى سنبدأ الدرس يا أستاذ؟
أجاب الأستاذ بكل سكينة:
– نحن الآن في صلب الموضوع عزيزتي، فالدرس قد بدأ فعلا ومنذ أن دخلت أنا إلى هذه القاعة.
الطلبة مستغربون من جواب الأستاذ حتى ذهب الأستاذ يسألهم:
– ما هو تعريف العــدالة؟
أجاب أحدهم:
– هو التساوي في الحقوق بين العامة.
أجاب طالب آخر:
– العدالة هو احترام حقوق الآخرين.
طالب آخر:
– عدم هضم حقوق الآخرين والدفاع عنه أمام التهديدات.
وآخر:
– الإنصاف.
بعد أن استمع الأستاذ إلى هذه التعاريف سأل الطلبة:
– وهل ما قمت به أنا تجاه زميلكم قبل قليل كان عدلاً؟ هل كنت منصفاً عندما طردته من الدرس؟ هل كان تصرفي معه وقيامي بحرمانه من الدرس وحضور المحاضرة بينكم فيه شيء من عدالة؟
أجاب الجميع:
– كلا لم تكن منصفاً ولا عادلاً.
الأستاذ:
– إذن لماذا سكتم عني؟ لماذا لم تدافعوا عن زميلكم وتنصروه وتنصفوه أمام ما تعرض إليه من ظلم وإجحاف؟!.
سكت الطلبة وكلهم آذان صاغية يستمعون إلى الأستاذ الذي بدأ يسالهم واحدا تلو الآخر:
– أنت.. لماذا لم تنهض وتعترض على قراري في طرد زميلك، أليس هو صديقك ويجلس إلى جانبك؟
أجاب الطالب:
– أنا راسب من العام الماضي وأخشى أن اخسر هذا العام أيضاً ولا يحق لي البقاء في الجامعة بعدها.
يوجه السؤال إلى طالب آخر:
– أنا خشيت أن تطردني أنا الآخر من الدرس.
طالب آخر:
– الامتحان السابق لم أكن محظوظاً في هذه المادة فخشيت أن تضجر مني وأن أرسب في المادة.
بعد أن استمع الأستاذ إلى الطلبة قال لهم:
– كل ما تقدمتم به من أعذار هي أعذار شخصية، أي أنكم فضلتم مصالحكم الشخصية على المصلحة العامة. ضحيتم بصديقكم من أجل أن لا تصابون بأذى محتمل ولم يفكر أحد منكم في مساعدته أو إنصافه. رغم إنكم جميعاً متفقين على أن زميلكم مظلوم وأنا من ظلمته إلا أنكم لم تحركوا ساكناً لنصرته والوقوف بجانبه والتصدي لي. هكذا تصنع الدكتاتوريات وهكذا تظلم الشعوب التي تصنعها. أمام سكوتكم هذا بإمكاني أن أطرد من أريد وأن أفعل بكم ما أريد وأن أتحكم بمصيركم الدراسي كما أشاء وانتم ساكتون.
هكذا انتهت الحصة العملية لهذا الأستاذ عن مفهوم العدالة في هذا الفصل وقد علم الجميع أن الشعوب هي من تصنع الأنظمة الدكتاتورية وهي من تغذيها بسكوتها وخشيتها. تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة هي من تخلق الفوضى التي سوف تأخذ بزوابعها الجميع دون استثناء. الحرية تتطلب تكاتف الجميع ونصرة المظلم والوقوف بوجه الظالم كائنا من يكون. وليس للحرية أو العدالة مكان بين أمة يعيشون على مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان).