4 مارس، 2024 10:56 ص
Search
Close this search box.

فلسفة الشعر العربي الصوفي

Facebook
Twitter
LinkedIn

يرى البعض من الكتاب والباحيثين في الشعر والادب والدين
ان التصوف هو بداية لثورة الروح على كل الوسائل التي تتوسل
بها المدنية لكبح جماح الدوافع الفطرية في الانسان.

وحينما نطالع بعض النصوص الادبية اليونانية نجد ان باخوس اله
الخمر وعبدته قد ثاروا على عقل المدنية ونظمها وذلك بان يسكروا
سكرا بدنيا او روحيا يستعيدون فيه غزارة شعورهم ليروا العالم
مليئا بالجمال والمتعة حتى تجنح ارواحهم بعيدا عن سجن المادة
والمشاغل اليومية.
وفي احدى المسرحيات التي كتبها يوريبيدس 406ق.م نجد بعض
العجائز وهن يرقصن على سفح الجبل هروبا من اعباء المدنية
وهمومها الى عالم جماله غير بشري ,عالم يتمتعن فيه بالحرية
والسلام ,فينشدن الشعر :
ترى هل تعود لي يوما
تلك الرقصات الطوال
التي تدوم طوال الليل حى تغرب النجوم
ترى هل احس قطرات الندى على حلقي
ومجرى الريح في شعري
ترى هل تسطع اقدامنا البيض في السهول المعتمة
ان اقدام الغزالة قد فرت الى الغابة الخضراء
فكانت وحدها في الكلأ وفي دنيا الجمال
انه يثب لا عن خوف كما كان
فقد بعد عن الفخاخ وشباك الموت
ومع ذلك فلا يزال يرن صوت من بعيد
لايزال يرن صوت وخوف وكلاب صيد عجلانة
الا ان جحفل الموت
لا يزال سائرا قدما الى جانب النهر وفي جوف الوادي
اكان عدوك ايتها الاقدام السريعة عن فرح او فزع
ففي الارض العزيزة المعزولة عن سيئات الانسان
حيث لايرن صوت ,
وبين الخضرة الظليلة ,
يعيش صغار الاحياء هناك لاتراها العيون.

ويعتقد الباخيون-عبدة باخيوس اله الخمر في اليونان-ان الانسان
نصفان ,نصف الهي والآخر ارضي ,وهم من اجل ان يحيلوا
الانسان الها كله تقريبا يقيمون طقوسا دينية تطهر نفوسهم وتجنبهم
الدنس,فالحياة الطاهرة تزيد من الجزء السماوي في الانسان
وتنقص من الجزء الارضي .
وفي نفس المسرحية ليوريبيدس نقرأ الابيات التالية لاحد الكهنة:
حيثما طوف زاجريوس
في منتصف الليل ,طوفت معه
لقد احتملت صياح صواعقه
واديت اعياده الحمراء الدامية
واشعلت (للأم الكبرى)شعلتها على الجبل
لقد اطلق سراحي ,وسميت
باسم باخوس,منخرطا في زمرة الكهان
وتزملت برداء ابيض ,فطهرت نفسي
من دنس ولادة الانسان ومن طينته التي هو دفينها
ونحيت عن شفتي دائما
طعم اللحم كله ما دام لكائن حي.
وفي الهند ايضا نجد ان البعض من الفلاسفة والمتصوفين قد
اكدوا على ضرورة اندماج الانسان واتحاده بالعالم السماوي
العلوي الذي لاتصطرع فيه الغايات ولا تتنافس فيه النفوس,
وهذا العالم السماوي لا يلتفت الى الاجزاء او الزمان والمكان.

وقد انتشرت نزعات التصوف كذلك في الصين وبلاد فارس
كما يذكر ذلك ول ديورانت في قصة الحضارة.

ولعل المتتبع لظاهرة الهيبي التي انتشرت بشكل كبير في الدول
الغربية يجد ان في هذه الظاهرة ضروبا عدة من ضروب التصوف
الذين رفعوا شعار المحبة كعلاقة ضرورية بين افراد المجتمع
البشري.
يقول المؤرخ توبيني واصفا البعض من اصحاب تلك الظاهرة
الهيبية:(الحب هو شعارهم ..وما المانع ؟؟الله محبة ..
انظروا الى المسيحين الاوائل ..كانوا يبدون كالمجاذيب
تبلبلت السنتهم فكانوا يتكلمون بلغات غير مفهومة…).
ولاباس ان نقرأ بعضا من ابيات الشعر التي كتبها احد الهيبين
الذي يرفض القيود التي وضعتها الانظمة الراسمالية ضد
الحريات الانسانية:
عندما يكون القمر في المنزل السابع
ويتحاذى كوكب المشتري مع كوكب المريخ
عندئذ سوف يقود السلام الافلاك
ويوجه الحب سفينة النجوم
بهذا يقترب عصر الدلو
عصر الدلو
برج الدلو
برج الدلو
سوف يسود الانسجام والتفاهم
والتعاطف والثقة ينتشران
ولن يكون هناك زيف ولا احتقار
سوف تنتشر الاحلام الذهبية الدفاقة
احلام الرؤى
الهام الصوفية البلوري
محررة العقل اصدق تحرير.
وقد لجأوا هؤلاء الى المخدرات والشعور الطويلة والسلاسل
والرقص الهستيري ليهربوا من واقع حياتهم المريرة الى
واقع مبتذل وشائن خرج بهم من حدود التصوف البشري
الى مزالق البهيمية الرعناء.
والتصوف عند العرب يعني رؤية الكون بعين النقص بل غض
الطرف عن كل ناقص ليشاهد من هو منزه عن كل نقص,فالكون
في نظر الصوفي العربي ليس حقيقيا ,وهو يحاول سد هذا النقص
ويسعى الى بلوغ عالم الكمال ,عالم الحقيقة المنزه عن كل نقص
ولايتسنى للصوفي العربي بلوغ عالمه الجديد هذا الا بالغياب عن
عالم الارض الناقص ,العالم السفلي ,وما دام الامر كذلك فعليه
ان يتحرر من قيود الجسم والدنيا عن طريق قتل النفس واماتة
الحواس,اذ كلما كانت الروح غارقة بوجودها سجينة في جسدها
فمعنى ذلك انها ما تزال منفية.
ولو تتبعنا التاريخ العربي الصوفي لوجدنا ان التصوف قد شاع
كثيرا في عصر المماليك الذين الذين اقاموا نظامهم على الاقطاع
الحربي وعملوا على توزيع الاقطاعات على الرتب الرفيعة في
السلك العسكري مقابل الخدمة ,وهؤلاء الاقطاعيين اهملوا
وسائل الري ولم يحركوا ساكنا في سبيل تنمية الاراضي الزراعية
وزيادة انتاجها ,وراحوا يفرضون الضرائب الفاحشة والغرامات
المتكررة على الفلاحين وارباب الصناعات الحرفية فانتشر الفقر
وعمت الفاقة وغلاء الاسعار ,مما خلف عند البعض شعورا
بالعبث والضياع فحاول هذا البعض ان يلتمس لنفسه مخرجا
متوهما تجلى بالسكر والمجون احيانا,وبالتقوقع والانقطاع
عن الحياة والزهد في متاعها احيانا اخرى.

وقد انقسمت التجربة الصوفية منذ ذاك الوقت من حيث علاقتها
بالشريعة الى قسمين قسم بقي في اطار الشريعة الاسلامية
ينهل منها ويعيد انتاج معطياتها ,وقسم خرج عن تعاليمها
واتجه الى تكوين نظامه القيمي بشكل مخالف لنصوصها
ومقتضياتها.

وبالطريقة ذاتها نجد ان الشعر العربي الصوفي باعتباره ثمرة
من ثمار التجربة الصوفية ووسيلة من وسائلها التعبيرية التي
تنقل الخبرة وتختزنها كان لابد له ان ينقسم الى نفس القسمين
المشار اليهما اعلاه,وبالتالي تفرع الشعر العربي الصوفي الى
اولا
الشعر الصوفي الرسمي للدولة الذي يميز بين الالهي والبشري,
ويسمى بالشعر الانفصالي.
ومن ابرز شعراء هذا النمط الانفصالي ابن عطاء الله السكندري,
الذي يقول :
لم لا اصون عن الورى ديباجتي
واريهم عز الملوك واشرفا
ااريهم اني الفقير اليهم
وجميعهم لايستطيع تصرفا
ام كيف اسال رزقه من خلقه
هذا لعمري ان فعلت الجفا
شكوى الضعيف الى ضعيف مثله
عجز اقام بحامليه على شفا
فاسترزق الله الذي احسانه
عم البرية منة وتلطفا
والجأ اليه تجده فيما يرتجي
لا تعد عن اسبابه منحرفا
يتكيء النص اعلاه في نصفه الاول وبشكل اساسي على ضمير المفرد
المتكلم الذي لايرى تحققه كذات الا بانقطاعه عن الاخرين ,وهذا
الانقطاع ياتي مشفوعا بالتعويل على غائب مرجو ومنتظر ,يتم
الارتداد نحوه في الوقت الذي تتعين فيه الجماعة حالة سلبية مطلقة
,وتاخذ العلاقة مع الغائب الذي هو كلي الحضور شكل الخضوع
والتلقي,ويتم نشدانه باعتباره مركزا للوجود وعلة له,,,,,
ثانيا
الشعر الصوفي الفلسفي الذي حمل بداخله بذور الرفض وحاول ان
يتخطى المطلقات السائدة بدمج الالهي في الانساني ,اي انسنة
الالهي وتاليه الانساني.
ومن ابرز شعراء هذا النمط الفلسفي التوحدي هو ابن سوار الذي
يقول:
لك الكون يارب الملاحة عاشق
وليس هوى الا بحبك لائق
وما انت غير الكون بل انت عينه
ويفهم هذا السر من هو ذائق
ظهرت فلم تخفى على ذي بصيرة
وغبت فلم تظهرك الا الحقائق
وافنيتني عني فمالي ارادة
وليس المحب الصرف الا الموافق
يقوم النص اعلاه على ثنائية العاشق والمعشوق ,تظهر بينهما
الوحدة والفناء في بعضهما البعض ,وهو اروع ما قيل في
الشعر الصوفي التوحدي,,,

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب