بلا شك ان كل طرف سياسي مناوئ لحكومة المالكي أو موالي له يدعي الحرص من جانبه على وحدة العراق و سيادته وسلامة اراضيه كشرط من شروط صدق الانتماء الحقيقي له ، الا ان مصيبة مواطنيه فانهم يرون عكس ذلك تماما بدليل ما تخلقها تلك الاطراف من أزمات سياسية تنذر بخطر انزلاق البلد الى هاوية محتومة ، وفي ظل دخول الجيش كأداة حسم للخلافات ، والذي يذكرنا بسابق عهد هذا الجيش الذي لم يتردد طيلة اكثر من ثلاثة عقود في الحاق الاذى بالشعب العراقي حين تحول كبار قادته الى دمى يحركها النظام على ضوء مقتضيات مصلحته السياسية، وهذا يعني ان المشهد السياسي العراقي بدأ يترجم الماضي وفلسفة السلطة التقليدية التي كانت سائدة ابان النظم الدكتاتورية بأسلوب لا يختلف كثيرا الا في الاسماء والعناوين مع الاحتفاظ بالممارسة على ارض الواقع…
هذه هي الصورة المألوفة للنظام السياسي الذي يدير دفة البلاد ، والذي بإمكان أي مواطن عادي ان يحدد وجهه الاستبدادي في صورة الطائفة الواحدة والحزب الواحد بل وحتى الزعيم الاوحد الذي لا يمكن القبول بمعارضته والوقوف بوجه اجتهاداته الفكرية والسياسية …
انه جوهر الاستبداد الذي يتحول بمرور الوقت الى ارادة للقمع والاضطهاد لحرمان المواطن من ابسط حقوقه الوطنية ، وهي بلا شك مؤشر واضح على ان الديمقراطية التي تتبجح بها الالسنة السياسية في الحكومة هي مجرد شعارات وهمية حولتها تقنيات السياسة الدارجة الى يافتات براقة يستغلون بها قلة الوعي الديمقراطي السائد لدى المواطن ، خصوصا حين دفعت الغفلة هذا المواطن ان يقلد شعوب البلدان الديمقراطية بالتظاهر والاعتصام من أجل ابسط حقوقه المشروعة ، متجاهلا بان اختلاف نظمنا السياسية عنهم هو اختلاف مبدئي من الصعوبة مقارنتها ، نطمنا السياسية قائمة على الوعود التي لا تتحقق ، والمحسوبية والمنسوبية ، بما في ذلك التلاعب بأصوات الناخبين واستغلال بساطتهم لأغراض الفوز بالسلطة بأي ثمن بما يضمنه دون منافس ،فبالعودة الى مجريات التي رافقت الانتخابات العامة نجد ان نتائجها هي التي سببت في اشتداد الصراع السياسي ، بل وهي التي كانت وراء ما وصلت اليها الاوضاع في العراق… فيما نجد بالمقابل ان النظم السياسية الغربية تسعى بكل ما أوتي من فكر وفلسفة ان تضع مصلحة مواطنيه فوق كل اعتبار مع الأخذ بعين المصلحة الوطنية العليا لكونها من الثوابت المبدئية التي لا تقبل المساومة باي شكل من الاشكال ..
اذن ان ما يحدث في العراق هو تحصيل حاصل ونتيجة حتمية لضعف العقلية السلطوية التي لا تميز الى الآن النظام الديمقراطي عن النظام الاستبدادي ، والتي سببت في انعدام مبدأ القبول بالآخر ، وانتشار مبدأ البحث عن الذات وتيسيرها على اساس البقاء ، وعدم القبول بمبدأ الشراكة الوطنية التي تبعد شبح الفوضى عن البلاد ، لذلك نجد ان تراكم الاخطاء السياسية مهدت السبيل للمالكي ان يسعى باتجاه السيطرة المطلقة بعظائم الامور وأبسطها بناء على النصح الاستشارية التي يقدمها المقربون منه ، ويدفعونه باتجاه المزيد من الاخطاء ،ليجد نفسه في النهاية مرهقا وعاجزا من تقبل آثار تلك الاخطاء ، التي اذا ما بقيت على حالها ربما سيكون الثمن باهظا …
ان ما حدث في الحويجة سوف لن تكون الاخيرة ما دامت العقليات السياسية تبحث في فراغ دائم عن الحلول ، وتمنح الارجحية في استخدام القوة لتجاوز الازمات ، وتؤمن من باب الخشية بمبدأ(نظرية المؤامرة) باعتبار ان كل صوت معارض للنهج السياسي هي المؤامرة بعينها لانتزاع السلطة ، وهي المصيبة الكارثية الدائمة في عقليات الانظمة التي تخاف شعوبها ، وتخشى من استقلاليتهم السياسية والفكرية والثقافية …
ومن هنا يبدو لي ان البعض من المتعاطفين لمسار حكومة نوري المالكي ونهجه (غير الديمقراطي)يعتبرون الوقوف بوجه الاخطاء (مؤامرة) ، والمطالبة بأبسط الحقوق المدنية المشروعة أيضا مؤامرة من النوع الثقيل ، المطالبة بقضاء عادل غير مسيس تجاوز على مسيرة القضاء وتدخل في (استقلاليته) المزعومة دون ان نجد لهذه الاستقلالية حضورا متوازنا في سير اعماله ، وهذا يعني ان ديمقراطيتنا التي ننتظر ولادتها ما زالت مخاوفنا قائمة بشأنها من ان تكون مشوهة نتيجة ومعنى ، لان قراءتنا لها في ظل هذه الاوضاع تؤكد ان حكومة السيد نوري المالكي مؤمنة بالديمقراطية بشروطها التي تمنع المحاسبة والاستجواب ، وتمنع مبدأ سحب الثقة التي هي سائدة حتى في الدول النامية والفقيرة التي لا تعرف شيئا عن الديمقراطية ، ولا تملك من اموال وثروات تمهد السبيل امام حكوماتها لتشجعها على الفساد …
اذن فان ما نعيشه منذ عشر سنوات هو الوهم الديمقراطي بعينه ، فالتي ظهرت من علامات الانفتاح على الصحافة وما يسمى بحرية الرأي والتعبير هي اللعبة التي ينشغل بها المواطن ، فمهما كانت شدة الاحتجاجات فان الحكومة عازمة على عدم الاستجابة لها، فيما نجدها لا تبدي ولو اهتماما جزئيا بما تنشره الصحف والمجلات عن ذروة الفساد التي نخرت جسد الوطن ، ناهيك عن حجم الصفقات المالية التي ابرمتها كبار السياسيين مع من طاردتهم العدالة بتهم الارهاب والاختلاس ، وجاءوا بهم دون حياء وخجل ليشاركوا في انتخابات مجالس المحافظات ، وهذا يعني ان نوري المالكي لا يبدي تخوفا من تلك الانتهاكات بمبدأ الديمقراطية لكونه يتمتع بالسيطرة المطلقة ، وله من وسائل اعلامية خاصة به تمكنه من قلب الموازين ، وطالما ان العديد من القوى الاقليمية والدولية تقف على خط موازي لسياسته ، بل وتقدم له الدعم الكامل في حالة ظهور علامات هذيانه السياسي ، وكذلك الوجوه التقليدية المقربة منه الذين يؤيدونه على البياض دون مناقشه …
هذه هي المعضلة التي يعيشها العراقيون ، وهذه هي صورة النظام السياسي الذي لم نشهد له انجازا يرفع من شأننا كسائر الشعوب ، ولايزال يبحث عن ديمومته بطريقته الخاصة التي لا ترتبط عملا وفكرا وممارسة بالديمقراطية التي اذا ما التزم بمبادئها أي نظام سياسي ، فبلا شك سوف نجد تحت ظلها بلدا موحدا ذات سيادة واستقلال……