17 نوفمبر، 2024 11:42 م
Search
Close this search box.

فلسفة الحماسة والشجاعة شعرا ، بين شاعر فارس ،، وفارس شاعر

فلسفة الحماسة والشجاعة شعرا ، بين شاعر فارس ،، وفارس شاعر

الرجل الشجاع يصح ان يكون شجاعا بالدربة والمخالطة ولكن القلب الشجاع لايكون الا فطريا ولاديا لاينتحل ولا يستبدل ولا يستأجر . وفي شعر الحماسة العربي الذي ملأ الدنيا وصفا وتعبيرا عن كل شأن من دقائق الشجاعة والفروسية وشؤونهما حتى لاتملك امة اخرى وان زخرت بابطالها وشجعانها مد ما ملكت امة العرب من الشعر الحماسي الصادق ولانصيفه ،
ويطمئننا لقراءة هذا الغرض الشعري والتلذذ به ان العرب و إن بالغ شعراؤها في كل شيء واستحلبوه صورا واستجلبوه مناظر متخيلة او مستعارة الا انهم ما فعلوا ذلك في الفروسية والحماسة فانهم ما وصفوا الا الشجاع وماقالوا الا صدقا ، ولو كانوا فعلوا خلاف ذلك لما قبل شعرهم احد.
وقديما قيل ان “اعذب الشعر اكذبه” لكن في الفروسية فان اعذب الشعر اصدقه ، ويكون اقبحه اكذبه
فعندما تقول لحبيبتك انك كالقمر وهي كوجه جارنا (قاسم الانضباط) رحمه الله، فهذا عذب ومحمود وهذا مايصنعه الشعراء ،، وان تقول لممدوحك في الكرم انك فقت حاتما وهو لايكاد يعرفه وبالكاد يشبع جائعا اذا تصدق ، فهذا من المبالغة الحسنة في الشعر ودرج عليه الشعراء المادحون وتقبله منهم السامعون ، وكذا ان سهرت قصائدك الليالي وانت في الحقيقة غاط نائم ، او إن أشعت الامل بينما انت يائس نادم ، فكل هذا من “اعذب الشعر اكذبه” فالشعراء “يقولون مالايفعلون”. ولكن ان تصف موقفا جبانا بالشجاع ، فهذا ليس من الشعر العذب، بل من قبيح الكذب.
فالذي جعل شعر عنترة محببا الى النفوس مقبولا لدى العقول قبل مكانته العالية فنيا هو صدقه ، فعندما تسمع البيت وتتصوره وتدري ان وراءه حدث حقيقي وفارس مغوار صادق فسيلهبك ويؤثر فيك ويطربك ، ولذا خلدت الحماسيات من شعره في وجدان الناس وتفوقت على غيرها ممن يفوقها سبكا وتصويرا وفنا ، كقصائد ابي تمام العباسي وقبله النابغة الجاهلي والفرزدق الاموي وبعده الشريف الرضي العلوي المتأخر زمنا وامثالهم، فهؤلاء يتكلمون عن حرب وطعان وصولات فرسان ، وهذا يتحدث عن نفسه ويعبر عما فعل.
ففي شعر الحماسة العربي الوصفي الحربي القتالي اذن مئات الشعراء ، ولكن في الشعر الوصفي الذاتي المسجل لشجاعة الجنان المعبر عن رباطة القلب امام الموت شاعران فقط ، شاعر فارس وفارس شاعر نتناولهما في فصلنا هذا
فاحدهما شاعر ألف الفروسية وتسيدها والاخر فارس تفوق في شعر الحماسة واصولها. ولنا منهما شعر كثير ولن نخوض الا في قصيدتين لهما تتقاربان وتبينان مانرمي اليه ، القصيدتان العينيتان لهذين الشاعرين الفارسين وهما من زمنين متباعدين ، جاهلي واموي
••دلال المنايا و أمير الموت
الأول شاعر عرف بالفروسية والشجاعة بسبب شعره فهو من اهل المعلقات ، وهذا عنترة بن شداد العبسي الجاهلي (دلال المنايا) العبد الذي قاد احرار قومه في سوح الوغى ونصرهم :
أَنا العبْدُ الَّذي خُبّرْتَ عَنْهُ ،،،،،،وقد عاينْتَني فدعِ السَّماعا

وفارس عرف بالشعر بسبب فروسيته فهو قائد الخوارج قطري بن الفجاءة التميمي الاموي (أمير الموت) زعيم الأزارقة الذي اتعب المهلب بن ابي صفرة القائد الشهير:
إن يلقنى بحـــــــــــــــــدّه المهلــــــــــــــــــــــب
أصبر وإلا لم يضرنى المهـــــــــــربُ
شيخٌ بشيــــــــــــــخ، ذا وذا مُجَرَّبُ
رمحــــــــاهما كـــــــــــــــلاهـــما مخَّضــــــــب

هذان شاعران فلسفا الشجاعة ونظراها وفسراها ولم يوصفاها ويروياها فحسب ، وهذا اختلافهما عن اقرانهما السابقين واللاحقين وحتى عن المعري والمتنبي الذين فلسفا الموت بجملته وتكلما عن مجابهته.
فهذا عنترة شاعر الفروسية الاشهر يصور لحظة فرار الناس من الموت شجاعهم كجبانهم الا هو ، فيبن لماذا ويشرح لك بتفصيل كيف تنخدع فتخاف ، فيقول

اذا كشفَ الزَّمانُ لك القِناعا ،،،،، ومَدَّ إليْكَ صَرْفُ الدَّهر باعا
فبادر المنية ولاتدع الخوف يسلمك الى الجبن ثم الى التسليم فربما ان الذي يميتك هو جبنك وتراجعك وقد تنجيك صولتك ودفاعك

فلا تخشَ المنية َ وإلتقيها ،،،، ودافع ما استطعتَ لها دفاعا
ولانه خبر الشجاعة وعايشها وولد بها وعلم الذي يقعد الجبان الخائف المتردد فيوصي ويعلم

ولا تخترْ فراشاً من حرير ،،،،، ولا تبكِ المنازلَ والبقاعا

وفرة الفراش و أثرة الراحة هي التي تغريك بالهرب والتأخر عن الإقدام ، ألم يقل الشريف الرضي
الراحُ وَالراحَةُ ذُلُّ الفَتى ،،،،، وَالعِزُّ في شُربِ ضَريبِ اللَقاح
فهؤلاء الفرسان لامكان للراحة في نفوسهم
يا نَفسُ مِن هَمِّ إِلى هِمَّةٍ ،،،، فَلَيسَ مِن عِبءِ الأَذى مُستَراح
فهم يعلمون انه
في حَيثُ لا حُكمٌ لِغَيرِ القَنا ،،،،،وَلا مُطاعٌ غَيرَ داعي الكِفاح

نعود الى عنترة وهو يفسر لك دوافع خوفك ومنابع ترددك

وحَوْلَكَ نِسْوَة ٌ ينْدُبْنَ حزْنا ،،،،،، ويهتكنَ البراقعَ واللقاعا
الركون الى النساء المحبات الحبيبات المخذلات وقت الطعان لأحبابهن ، فحسبك رؤيتهن بقطعن ثبابهن فزعا وحزنا خوفا من موتك ان يكون سببا لجبنك

يقولُ لكَ الطبيبُ دواك عندي،،،، إذا ما جسَّ كفكَ والذراعا
وهذا هو الطبيب الذي بوهم الناس بديمومة الحياة، فالدواء عنده والشفاء لديه ، ولكن وفي جملة فلسفية جامعة يفنده

ولو عرَفَ الطَّبيبُ دواءَ داء ،،،، يَرُدّ المَوْتَ ما قَاسَى النّزَاعا
فلكان دواى نفسه وشفاها عندما حضرت منيته ، فلا تركن اليه

ويدخل عنترة في بيت القصيد وهو ثلاثة ابات مميزات حيث يروي

وفي يوْم المَصانع قد تَركنا ،،،،، لنا بفعالنا خبراً مشاعاً
في تلك المعركة الخالدة وذلك اليوم المشهود من أيام العرب ، فقد صنعنا من الحرب سوقا وجعلنا النفوس فيها بضاعة

أقمنا بالذوابل سُوق حرب ،،،،، وصيَّرنا النفوس لها متاعا
وهنا
حصاني كانَ دلاّل المناي ،،،، فخاض غُبارها وشَرى وباعا
وكذا
وسَيفي كان في الهيْجا طَبيباً ،،،، يداوي رأسَ من يشكو الصداعا
فسيفي هو الطبيب لمن شغل راسه بالحديث عني قبل ان الاقيه وخاض في شأني وقال هذا العبد ف

أَنا العبْدُ الَّذي خُبّرْتَ عَنْهُ ،،،،،،وقد عاينْتَني فدعِ السَّماعا
انا الذي
ملأْتُ الأَرضْ خوْفاً منْ حُسامِي ،،،، وخصمي لم يجدْ فيها اتساعا
بل
ولو أرْسلْتُ رُمحي معْ جَبانٍ ،،،،، لكانَ بهيْبتي يلْقى السِّباعا
وهذه الارض الفسيحة كيف بظنك ستكون في عين الأبطال الفارين من سيفي
إذا الأَبْطالُ فَرَّت خوْفَ بأْسي ،،،،، ترى الأقطار باعاً أو ذراعا

فعنترة شاعر ولكن احسن مايكون من شعره اذا غار فارسا ، ولذلك قال النقاد القدامى الشعراء اربعة ، منهم “عنترة اذا ركب والاعشى إذا طرب”.

أما الثاني قطري بن الفجاءة الفارس المشهور والشاعر المغمور
فقد اختص في الصبر عند اللقاء و ربط ذلك دوما بفكرة استحالة البقاء ، فيقول من الطويل
أُقارع عن دار ِالخلـــــــــــــــــودِ ولا أرى ،،،،، بقاءً على حالٍ لمن ليــــــــــــــــــس باقــيا
ويخفف عنه كره الموت ويدفع عنه التردد المتأتي من التشبث بالحياة إيمانه العقائدي بحتمية الأجل وثبات توقيته

ولست أرى نفساً تموت وإن دنت ،،،،، من الموتِ حتى يبعثَ اللهُ داعــــــــــيا
ولذا فهو يفسر لنا لم يخاف الآخرون من الرجال ولا يدب الخوف اليه وماذا يصنع ليثبت امام الموت
إذا استلب الخوفُ الرجالَ قلوبهم ،،،،،،حبسنا على الموتِ النفوسَ الغواليا
فهو لا يشعر كما نشعر نحن عندما نرى السيوف مشرعات

إلى كم تُغارينى السيــــــــــوفُ ولا أرى،،،، مُغاراتِها تدعــــــــــــــــــــو إلىِّ حـــــــــــــــمامــيا
فهو اول مايخشاه ان يلحقه الخزي من حديث الناس بأكثر مما يخشى الموت

حذار الأحاديث التـــــــــى لوم غَّيها،،،، عَقَدْنَ بأعناقِ الرجالِ المــخــــــــــــــازيــــــــا
الم يقل المتنبي
والعار مضاض وليس بخائف ،،،،، من حتفه من خاف مما قيلا

قصيدته العينية
ويعطي قطري بن الفجاءة -في قصيدته العينية التي هي محط المقارنة مع قصيدة عنترة السالفة الذكر والشرح – دروسا في البسالة
فليس الامر كما يظن القاريء او السامع فللموت رهبة لايقف بوجهها الابطال ولايقحمها الرجال ولايتحملها الشم من الجبال ، لاشك في ذلك وكل الشجعان يرهبونه لحظة الصدام وعندما يصير حقيقة ولكن هذا المقدام يفلسف لنفسه القتل ويحاورها عندما تريد تفزع كبقية النفوس او يطير شعاعها فرقا من لقاء الابطال

أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً،،،،،مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي

فيعود الى نظريته التي تعايش معها كل أيام عمره وهي -كما راينا في قصيدة سابقة- استحالة التأخر عن الاجل

فَإِنَّكِ لَو سَأَلتِ بَقاءَ يَومٍ ،،،،، عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي
فلا مفر اذن من الأجل ولا منفعة حينئذ من الإحجام ، فهو الذي يقول من الكامل في موضع اخر :
لا يَرْكَنْنَ أحـــــــــــــــــــــــــــــــدٌ إلى الإحجـــــــــــــــامِ،،،، يوم الوغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى متخوفاً لحمامِ
فهذا الخطيب الفارس لم يقل شعرا الا ليفهمنا كيف تكون المنايا وكيف تكون الشجاعة وماهي طرق الصبر
فقبل ذلك وهو أديب قومه وسيدهم يقول للحجاج بلغة الاديب الاريب وقد كان وصله منه كتابا يهدده ويتوعده
«من قطري بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف. سلام على الهداة من الولاة، الذين يرعون حريم الله ويرهبون نقمه. فالحمد لله على ما أظهر من دينه، واظلع به أهل السّفال، وهدى به من الضّلال، ونصر به، عند استخفافك بحقه. كتبت إلى تذكر إني أعرابي جلف أمي، استطعم الكسرة واستشفي بالتمرة. ولعمري يا ابن أم الحجاج إنك لمتيه في جبلتك، مطلخم في طريقتك، واه في وثيقتك، لا تعرف الله ولا تجزع من خطيئتك، يئست واستيأست من ربك، فالشيطان قرينك، لا تجاذبه وثاقك، ولا تنازعه خناقك. فالحمد لله الذي لو شاء أبرز لي صفحتك، وأوضح لي صلعتك. فوالذي نفس قطري بيده، لعرفت أن مقارعة الأبطال، ليس كتصدير المقال مع إني أرجو أن يدحض الله حجتك، وأن يمنحني مهجتك.»
فان مقارعة الابطال في سوح الوغى ياحجاج ليست كالكلام من الفرش والبلاط ، فيصف نفسه
فلقد أرانـــــــــــــــــــــــــى للرماحِ دَرِيــــــــــــــــئةً ،،،، من عن يمينى مرةً وعــــــــــــــــــــن أمـــــــــــــامى
حتى خَضبت بما تحــــــــــــدَّر من دمــــــــــى ،،،،، أكنافَ ســــــــرجى أو عنانَ لجـــــــــــــــــــامى
ثم انصرفت وقـــــــــد أَصبت ولم أُصبْ ،،،، جَذَعَ البصيرة قـــــــــــــــــــــــــارحَ الإقــــــــــــــــــــــدام
متـــعـــــــــــــــرضا للموت أضـــــــــــــرب معلما ،،،،بَهْمَ الحـــــــــــــــــــــــــروبِ مشهَّر الأَعـــــــــــلام
ومنها قوله
أدعو الكمــــــــــــــــــاةَ إلى النزالِ ولا أرى،،،،نحـــــــــــــــــــــــرَ الكريـــــــــــــم على القنا بحـــــــــــرامِ
الذي اخذه من قول عنترة في معلقته
فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ ،،،، لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ

فهاهو -عودا- يبين لنا ولخصمه كيف يكون القتال ومجابهة الابطال والثبات عند الموت ، فقد رايناه خاطب نفسه في قصيدته تلك ويقول لها اذا طارت شعاعا ،،ان لاتراعي ، فانك لو طلبت بقاء يوم على الاجل الذي لك لن تطاعي
و إذن
فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً،،،،، فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ
ولو بقي الرجل حيا وذليلا فبئس البقاء

وَلا ثَوبُ البَقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ ،،،،، فَيُطوى عَن أَخي الخَنعِ اليُراعُ
ومرة اخرى يدفعه ايمانه بحتمية وقت الاجل الى الاقدام فيخاطبها ويقول

سَبيلُ المَوتِ غايَةُ كُلِّ حَيٍّ ،،،،، فَداعِيَهُ لِأَهلِ الأَرضِ داعي
وخير من ان يسام ويهرم وينقطع ، يقدم ويستقبل منيته قبل ان تقدم اليه وتسلمه الى العدم دون ذكر خالد ،فهذا لايليق به وهو الذي “حُكي عنه أنه خرج في بعض حروبه وهو على فرس أعجف وبيده عمود خشب فدعا إلى المبارزة فبرز إليه رجل فحسر له قطري عن وجهه فلما رآه الرجل ولّى عنه فقال له قطري إلى أين فقال لا يستحيي الإنسان أن يفر منك”*
فيقول
وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم ،،،،، وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ

فبئس الحياة لرجل عد من هامش القوم، ولذا فقد عمد قطري بن الفجاءة هذا الى قوائم فرسه فقطعها -عندما لم يبق من صحبه احد معه يوم هجم عليهم جيش الخلافة- كي لاتحدثه نفسه بالهرب امام الالاف من العدو فظل يقاتل راجلا وحيدا حتى تناوشته سيوف خصمه فقطعته،،
وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ ،،،،،،، إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاع

القصيدتان من الوافر (بحر الحماسة) وكلاهما عينيتان وان اختلفتا في الوصل من القافية بين الاولى التي وصلها الالف الكاملة وليست اشباعا والثانية التي وصلها الياء مشبعة بالمد احيانا ، وكلاهما ردف رويهما الالف، والشاعران لم يعاقبا ردف القافية لتمكنهما من صنعتهما الشعرية كما تربعا على عرش الشجاعة والفروسية.

أحدث المقالات