8 أبريل، 2024 5:58 م
Search
Close this search box.

فلسفة الحرب بين ضرورات السياسة وتدبيرات الإيتيقا

Facebook
Twitter
LinkedIn

” “من الممكن جدّا أن تكون الحرب هي السياسة المطبّقة بوسائل أخرى. ولكنّ السياسة نفسها أليست هي الحرب مطبّقة بوسائل أخرى؟”[1]

استهلال:

يهدف هذا المبحث الى الإجابة على السؤال الشائك التالية: هل الحرب هي الصحة الأخلاقية للشعوب ومحرك التقدم التاريخي للأمم أم مصدر للرعب الكوني الذي يجفف منابع الحياة ويعبث بمصير البشر؟

لقد شغلت مشكلة الحرب والسلم الفكر البشريّ منذ مغامراته الأولى ومنذ معايشته للأشكال الأولى من التصادم والتقاتل التي عرفتها البشريّة، مثلما شغلتنا نحن العربَ في هذا الهزيع الأخير من زمن العولمة الاعتداءاتُ المتكرّرة والاستهدافات التي يتعرّض لها الوطن وخاصة عمقه الاستراتيجيّ في لبنان والعراق وفلسطين بشكل متعمّد ومبيّت. وسبب هذا الانشغال أنّ هذه الحالة الاجتماعيّة هي ظاهرة عامّة ملتصقة بالنشاط البشريّ وسمة بارزة دائمة الحضور في الحياة السياسيّة للدول والشعوب, تمثّل في الوقت الراهن تحدّيا حقيقيّا ومعضلة كبرى وتثير فينا مشكلا فلسفيّا له علاقة بالحياة والموت وتهتمّ به الاستراتيجيا والإيتيقا والتحليل النفسي وعلم المستقبليّات وعلم الاقتصاد وعلم الحرب Polémologie.

هكذا عشنا الحرب في وجداننا القوميّ في كلّ لحظة من تاريخنا منذ الغزوات الأولى للرّوح العربيّة والفتوحات الإسلاميّة مرورا بالحروب الصليبيّة ومعارك استعادة بيت المقدس وصولا الى حروب التحرير والاستقلال التي نعيشهاالآن. إنّنا منخرطون كرها ورغما عنّا فيها ومغمورون بأحداثها وسحرها. ولكنّنا نبحث بشكل دائم عن السلم والحوار والتفاوض. ونقدّم من أجل ذلك التنازل تلو الآخر. ونميل الى مهادنة الأعداء وإرضائهم طلبا للأمن والاستقرار. وعبثا نحاول لأنّنا نخسر دائما المعركتين: خسرنا معركة السلام التي أدّت الى حروب متناسلة كارثيّة أحرقت الأخضر واليابس, وخسرنا أيضا جلّ المعارك العسكريّة التي خضناها (1948, 1967, حربي الخليج 1991, 2003). وإن انتصرنا فيها( حروب الاستقلال, حرب العبور 1973, تحرير جنوب لبنان وملحمة 2006) نفوّت بالسياسة والدبلوماسيّة ما نحرزه بالسلاح وبالقوّة. ولا شكّ أنّ هذه التعثّرات ليست مدعاة لجلد الذات والتشاؤم، بل فرصة للبحث عن كيفيّة المصالحة بين العرب ومشكلة الحرب والسلم من أجل تحقيق نصر حاسم وتثبيت سلم أبديّة تعيد إدخال هذا المحيط الجيوسياسيّ العربيّ الإسلاميّ إلى التاريخ الكونيّ من بوّابته الرئيسيّة. وليس من الباب الخلفيّ حتى لا نكون مجرّد مظلومين وضحايا نثير شفقة أصحاب القلوب الطيّبة والنفوس الرحيمة.

هذه المصالحة لن تتحقّق إلاّ إذا استنطقنا ظاهرة الحرب من حيث تعريفها ومفهومها وفرزنا أنماطها ودقّقنا في الآليّات الدافعة إليها والفاعلة فيها وبيّنا رهاناتها ومختلف تجلّياتها واستتباعاتها لأنّ تأثير الحرب في حياة الأفراد والدول بالغ الأهميّة ولأنّ الحرب يمكن أن تكون جزءا من تدبير الإله للكون وشكلا لإرادته وجزائه والقدر الذي يحدّد مصير الإنسان أو يجسّد من خلاله حريّته. فهي حيلة للعقل ومحكمة التاريخ التي تؤدّي إلى الانحلال والتقهقر أو إلى التلاحم والتكوّن والتقدّم.

على هذا النحو، فإنّ الفلسفة لم تسكت عن الحرب ولم تترك أمرها من مشمولات علم السياسة وعلم الحرب لتهتمّ بالسلم ولكونها من الأمور غير المعقولة تسبّب الفوضى والقتل المؤسّس وتؤدّي إلى الجنون. بل احتفلت الفلسفة بهذه الظاهرة منذ بواكيرها الأولى. وبحثت في مشروعيّتها وحاولت تعقّلها وفهمها من أجل الاضطلاع بمشروع الوجود. ووجدت أنّها هي التي تدفعنا إلى التفكير في المعنى. وذلك لما تثيره فينا من آداب الشدّة ولكونها وضعيّة قصوى يعيشها الإنسان وتضعه أمام خيارين لا ثالث لهما وهما الطاعة الفوريّة أو الموت الفوريّ. علاوة على أنّ السلطة العسكريّة هي الشكل الأقصى لكلّ السلطات.

من هنا تطرح مشكلة الحرب في إطار علاقة الفرد بدولته والتي تتراوح بين التضحية والفداء من جهة والعصيان والخيانة من جهة مقابلة. لكن كيف يمكن للدولة أن تجبر مواطنيها على الخدمة العسكريّة لقتال العدو فتجعلهم يتعرّضون للموت أو الخطر في حين تبرّر ذلك بقولها أنّ غايتها هي تحقيق سلامة الأفراد والمحافظة على ممتلكاته وصيانة ثرواتهم؟ هذه الوضعيّة العبثيّة التي تضع نفسها تدرجها في إحراج منطقيّ واضح للعيان: إن كان الهدف من وجود الدولة هو المحافظة على حقوق الأفراد فإنّه من الخُلف أن نطلب من هؤلاء الأفراد التضحية بهذه الحقوق والمشاركة في الحرب لضمان حماية الدولة.

وتطرح كذلك في إطار علاقة الدولة الواحدة مع الدول الأخرى وإمكانيّة إعلان حقّ عالميّ بين الشعوب يضمن وجود حالة من السلم الدّائمة. والحقّ أنّ أمل السلام كان يراود الإنسان منذ أقدم العصور. وكان الشوق إلى تحقيقه شعورا عامّا ومتبادلا بين البشر. ولكنّ جميع المحاولات فشلت وجميع الاجتهادات تبخّرت دون معرفة الأسباب والعوامل وكأنّ الحرب هي الظلّ الذي يلازم الحياة الإنسانيّة والملتصق بالتاريخ لا يبارحه أبدا. تُرى أيكون السلام مستحيلا بحكم طبيعة الإنسان النزاعة إلى الصراع والقتال أم على البشريّة ألاّ تيأس وأن تواصل بذل الجهد من أجل تحقيق السلم بما هو حلم سحريّ عجيب؟ إن استحال علينا إنكار دور الحرب في تطوّر الحضارة البشريّة نظرا لأنّ إنجازات الإنسان لم تأت عن طريق الانسجام والتعاون بل نتيجة النزاع والتدافع، فهل يمكن أن نستخلص من ذلك ضرورة إدانة الحرب لما تخلّفه من دمار وقتل وما تثيره من رعب كونيّ؟ ماهي الدواعي والأسباب التي تؤدّي إلى اندلاع الحروب؟ لماذا تجد بعض الدول نفسها مضطرّة في غالب الأحيان إلى خوض الحروب دون رغبتها؟ من هي الجهة التي ينبغي أن تحاربها هذه الدول؟ هل تحارب الجيش النظاميّ والمؤسّسات الحربيّة أم تحارب كلّ فئات الشعب بما في ذلك المكفولين وذوي الاحتياجات الخاصّة؟ ماهي الطرق والأساليب التي ينبغي أن تتّبعها أثناء هذه الحروب؟ بماذا ينبغي أن تحارب هذه الدول؟ هل ينبغي أن تحارب بجيشها الوطنيّ أم بالاعتماد على الجيوش الأجنبيّة وبعض المرتزقة من المأجورين؟ كيف نعرف الحرب؟ وماهي شروط الإمكان التي ينبغي أن تتوفّر لإقامة سلم دائمة؟ هل ينبغي علينا أن نعرف الحرب لكي نعرف السلم أم أنّ الحرب هي الاستثناء والسلم هي القاعدة؟ لكن ما معنى قول البعض بأنّ السلم هي هدنة مؤقّتة بين حربين أو شكل من أشكال الحرب لا يحصل إلاّ نتيجة توازن في القوى المتواجدة؟ ثم ما علاقة الحرب بالسياسة؟ هل الحرب هي مواصلة للسياسة بطرق أخرى أم أنّ السياسة هي مواصلة للحرب بطرق أخرى؟

تنقسم خطّة البحث في هذا العمل إلى ثلاثة تمفصلات:

– التبرير الفلسفي للحرب والنظر إليها من جهة الغاية والوسيلة والقيمة والمنفعة.

– الإدانة الفلسفيّة للحرب والنظر إليها من جهة الاستتباعات والانعكاسات الخطيرة.

– التدبير الفلسفي لأمور السلم باعتبارها الشرط المانع والمعطّل لاندلاع الحرب.

ما نراهن عليه عند معالجة هذه الإشكاليّات هو تفادي الحرب غير العادلة والسلم التي تؤدّي إلى الاستسلام والتشريع لحقّ الدفاع عن النفس عند كلّ اعتداء مع الجنوح إلى المصالحة والصفح.

I) التبرير الفلسفيّ لظاهرة الحرب:

” الحرب أب كلّ شيء وملِكه” (هراقليطس)

“ينبغي ألاّ ينظر إلى الحرب على أنّها شرّ مطلق, على أنّها مجرّد حادث خارجيّ عارض له هو نفسه، من ثمّة، سبب عارض. وليكن: ألوان الظلم, أو أهواء المهيمنين على السلطة…إلخ, أو باختصار هذا السبب أو ذاك من الأمور التي كان ينبغي لها أن توجد.”[2]

جاء في لسان العرب أن: “الحرب: نقيض السلم, أنثى وأصلها الصفة كأنّها مقابلة حرب وتصغيرها حريب بغير هاء رواية عن العرب لأنّها في الأصل مصدر…تحمل على معنى القتل أو الهرج وجمعها حروب. ويقال: وقعت بينهم حرب…وقد أنّثوا الحرب لأنّهم ذهبوا بها إلى المحاربة. وكذلك السلم. والسلم يذهب بها إلى المسالمة فتؤنّث. ودار الحرب: بلاد المشركين الذين لا صلح بينهم وبين المسلمين. وقد حاربه محاربة وحرابا وتحاربوا واحتربوا وحاربوا … ورجل حرب ومحرب بكسر الميم ومحراب: شديد الحرب, شجاع. وقيل: محرب ومحراب: صاحب حرب. وقوم محربة ورجل محرب أي محارب لعدوّه, معروفا بالحرب عارفا بها. وأنا أحرب لما حاربني أي عدوّ(لمن عاداني).

والحرب بالتّحريك:أن يسلب الرجل ماله. حربه يحربه إذا أخذ ماله.الحرب: أن يؤخذ ماله كلّه. والحريب: الذي سلب حريبته وتباع داره وعقاره. المحروب: حرب دينه أي سلب دينه. والحرب بالتحريك: نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له. والحارب المشلح أي الغاصب الناهب الذي يعرّي الناس ثيابهم. وحرب الرجل: اشتد غضبه, وحربت عليه غيري أي أغضبته.

التحريب:التحريش, فخلفتني بنزاع وحرب أي بخصومة وغضب…والحرب كالكلب وقوم حربي كلبي والفعل كالفعل…”[3]

ما يهمّنا من هذا التعريف هنا هو ارتباط الحرب بالمعرفة والدهاء والمكر والدراية. وهي ترمز إلى الرجولة والإقدام والشجاعة والغضب. كما ترتبط الحرب بالقصاص من العدوّ وعدم الصلح مع الظالم أي رفض مسالمة المعتدي الغاصب. وهذا كلّه يدور في فلك مدح الحرب والتشريع للانخراط فيها. والحقّ أنّ كلّ الحروب التي عرفها التاريخ البشريّ هي أشكال من الصراع المسلّح والاقتتال بين مجموعات منقسمة إلى معسكرين: الحلفاء والأعداء. فالحرب نوع من العلاقة الاجتماعيّة داخل الدولة الواحدة وبين الدول، تتميّز بالتمايز والاختلاف والصراع الذي قد يصل إلى حدّ النزاع والتصادم والتقاتل. بيد أنّ الصراع الحربيّ ليس مجرّد صراع أجيال أو صراع بين الطبقات وشرائح المجتمع. بل هو صراع مسلّح ينتهج الموت والدمار ولا ينتهي إلاّ بتجريد العدوّ من سلاحه والتفوّق عليه عبر الإسراع في مهاجمته كحلّ دفاعيّ.

كلّ أمّة ترغب في الظهور إلى الوجود، وكلّ دولة تسعى إلى السّؤدد والنهوض تسعى إلى تأكيد فرديّتها وروحها الخافقة بالظهور على مسرح التاريخ من خلال خوضها لعدّة حروب وإرادتها التوسّع والزيادة في مجال نفوذها ودائرة سيطرتها عبر قتالها للأمم الأخرى وبسط سيادتها على العالم. من هذا المنظور ترتبط السياسة بالقوّة وتظهر القوّة في الاعتناء بالجيوش وشنّ الحروب. “إنّ الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء أكثر من تفكيره بالسلاح كثيرا ما يفقد امارته.ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدها وان التمرس فيه واتقانه هو السبيل الى الحصول على الدول والامارات.”[4] تَبيّن، إذن، أنّ الحرب فضيلة وأنّ السلم رذيلة ينبغي على السياسيّ ألاّ يغترّ بها لأنّها تجلب الفساد والهلاك. لذلك ينبغي “على الأمير ألاّ يستهدف شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها وألاّ يفكّر أو يدرس شيئا سواها إذ أنّ الحرب هي الفنّ الوحيد الذي يحتاج إليه كلّ من يتولّى القيادة.”[5]

هكذا كانت الحرب بالنسبة إلى السياسيّ عدل وحقّ وخير لأنّها تجلب له الغنائم والمنافع. وتعود عليه بالفائدة. فالحرب هنا حقيقة من الحقائق البشريّة التي تلعب دورا حاسما في تطوّر الدول ورقيّ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة للشعوب. وهي عامّة على كلّ شيء. وتسري على كلّ الظواهر. وتطهّر جميع الأدران والشوائب لكون جميع الأشياء تتكوّن وتفسد بالتنازع ولكون تاريخ العالم هو محكمة العالم. فالحقّ هنا هو القوّة. والقوّة هي التي تحرّك العالم بما فيه الحياة الاجتماعيّة للإنسان. وكان النشاط الحربيّ واستعداد الأمّة للقتال نوعا من الصحة الأخلاقيّة للشعوب. في هذا السياق يرى هيجل أنّ كلّ الحروب التي اندلعت في العالم وجدت بشكل كامن. وأنّ العلاقات بين الدول معفاة من الأخلاق أي لا أخلاقيّة. وبالتالي ينبغي أن نكفّ عن النظر إلى الحرب على أنّها شرّ أخلاقيّ لأنّ هناك لونا من ألوان الحرب هو بمثابة القوّة المحرّكة لتطوّر الفكر والمجتمع والتاريخ لأنّ الحرب تكون مفيدة لصحة الشعب الأخلاقيّة. وتنتج العديد من الفضائل الاجتماعيّة والعسكريّة مثل الشجاعة والنبل والتضحية بالنفس من أجل الآخر والإحساس بأهميّة الانتماء إلى المجموع .

يبدو أنّ الحرب تكون مفيدة لصحة الشعب الأخلاقيّة لأنّ “فساد الدول قد يوجد نتيجة معايشتها لفترة سلم وسكون وركود طويلة تماما مثل تعكّر مياه البحر وتلوّثها لانعدام هبوب الرياح. “فالحرب كالريح التي تهبّ فتحفظ ماء البحر من التلوّث والفساد بعد أن مرّت عليه فترة طويلة من السّكون والرّكود”. إذا كانت الحرب ضرورة وتمثّل إحدى الظواهر البشريّة التي لازمت الإنسان منذ فجر التاريخ حتى الآن ولم تكن مجرّد شيء عفويّ أو طارئ أو مصادفة فإنّه يمكن أن تفسّر تفسيرا عقليّا. وينظر إليها على أنّها تحقّق فعليّ ونشاط عينيّ للرّوح. وإذا أردنا فهم الحرب وتحليل طبيعتها وشرح وضعها والوقوف على كنهها فإنّه يتعيّن علينا إبراز دورها وتتبّع وظيفتها في تقدّم العلوم وصعود الأمم وتكوّن الدول. فكلّ الإنجازات الكبيرة لم تأت عن طريق الانسجام بين البشر والتعاون بين الشعوب، بل نتيجة النزاعات وعن طريق الحروب التي نشبت بين الجيوش لأنّ “الطبقة العسكريّة هي الطبقة الكليّة المكلّفة بالدفاع عن الدولة. فواجبها أن تجعل المثال بداخلها واقعا, أعني أن تضحّي بنفسها.”[6]

عندما يحارب الفرد في سبيل الدولة ويلتحق بالخدمة العسكريّة ويضحّي بنفسه، فإنّه يثبت استعداده لتخطّي القيم الماديّة المتناهية (الملكيّة الخاصّة, الثروة, الأسرة…) ولتجاوز مصالح المجتمع المدني الضيّقة من أجل أن يلتحم بغيره من المواطنين ليشاركهم في تحقيق هدف أسمى هو بقاء الدولة. تبرهن الحرب أنّ ما يؤمن به الفرد وقت السلم من أشياء ماديّة وقيم دنيويّة ورغبات جسديّة هي قيم فانية وأشياء زائلة ومتناهية وأنّ القيم الروحيّة والرغبات المطلقة والأفكار المثاليّة التي تبقى وتتأبّد لا تظهر إلاّ وقت الحرب. تؤكّد الحرب أنّ الأشياء الماديّة زائلة وعابرة وأنّ العالم الشخصيّ ضيّق ومحدود. فتزعزع الملكيّة الفرديّة وتعرض أنانيّة الإنسان ومصالحه الضيّقة للخطر وتثبت أنّ المصير المحتوم لكلّ ما هو جزئيّ هو الفناء والاضمحلال. فترفع الفرد من وضع العالم الخاصّ إلى موقف أعلى.

تجعل الحرب الشعوب تقف موقف اللاّمبلاة من الوجود العرضيّ والمؤسّسات المتناهية حين تعالج تفاهات الحياة الزمانيّة وتكشف عابريّة القيم الماديّة. فهي ذلك المغزى الرفيع واللحظة التي يبلغ فيها الجزئيّ الكليّ. ويتحقّق بالفعل. هكذا تكون للحرب فائدة ومنفعة تشبه فائدة الأزمات ومنفعتها. فهي عندما تمرّ بمجتمع معيّن تبرز تماسك أفراده وتضامن أسره وقوّة علاقاته وصلابة طبقاته واستعدادها للتضحية بمصالحهم الشخصيّة. علاوة على ذلك تبقى الحرب على طبيعة الملكيّة كشيء خارجيّ يرتبط بالذات الفرديّة ورغباتها اللاّعقلانيّة. وتكشف تفاهة الحياة نفسها. وتبيّن مخاطر السلم الذي يدفع المجتمع المدنيّ إلى تدعيم نفسه بجعل الثروة والملكيّة الخاصّة هي الهدف الأسمى. فيصاب بالترهّل والتخمة والوهن. فتأتي الحرب لتمكّن المجتمع من استعادة عافيته الأخلاقيّة. “الحرب تعالج، على نحو جادّ، تفاهة الخبرات الزمانيّة والأشياء العابرة.هي تفاهة كانت في أوقات أخرى موضوعا شائعا للمواعظ المنمّقة. وهذا ما يجعلها تمثّل اللحظة التي تبلغ فيها مثاليّة الجزئيّ حقّها، وتوجد بالفعل. فللحرب ذلك المغزى الرفيع.إذ بفاعليّتها (…) تحافظ الشعوب على صحتها الأخلاقيّة حين تقف موقف اللاّمبالاة من المؤسّسة المتناهية, تماما مثلما أنّ هبوب الرياح يحفظ البحر من التلوّث الذي يوجد نتيجة السكون الطويل. كذلك، فإنّ فساد الأمم قد يوجد نتيجة لفترة طويلة من السلام…”[7]

الحرب تملك قوّة سلب ونفي هائلة تجعل الفرد المواطن يتحقّق من أنّ وجوده يرتبط بكلّ أوسع وأنّ عالمه الخاصّ؛ أسرته وأمواله وممتلكاته، مرتبط ارتباطا وثيقا بسبب الوجود العامّ للدولة. ويمكن أن يندثر إذا لم يساهم في الدفاع عن وجود هذه الدولة. على هذا الأساس، فإنّ الحرب ليست هي الصحة في الدولة. وإنّما عبرها تمتحن صحة الدولة. فهي حينما تجعل المواطنين يواجهون شبح الحرب فإنّها تجعلهم يشعرون بقوّة سيّدهم المسيطر: الموت. إنّ قوّة الدولة تمتحن في حالة الحرب ورحاها وليس في حالة السلم التي هي حالة الاستمتاع والنشاط في عزلة، رغم أنّ غايتها ليست سياسيّة أي ليس التوسع أو الغزو أو السيطرة، بل العمل على تجميع المواطنين وتكتيلهم حول مبدإ أعلى وإسقاط ما بينهم من حواجز وإزالة الحيطان الماديّة التي شيّدتها المصالح الشخصيّة بالكشف عن نسبيّة الوجود البشريّ وتناهيه.

تطلب الحرب تضحية الأفراد بأنفسهم من أجل الدولة والتخلّي عن مصالحهم الذاتيّة والدخول مع غيرهم في كلّ واحد. ولكنّ التضحية تطلب المخاطرة بكلّ شيء والتحلّي بفضيلة الشجاعة. والشجاعة ليست خصلة نفسيّة. ولا هي مجرّد الإقدام والجسارة والجرأة. ولا هي الحماس الشخصيّ والجلد والتحمّل والبسالة دفاعا عن الشرف والكرامة. فهذه مجرّد صفات فرديّة ترتبط بالآراء الذاتيّة. بل الشجاعة الحقّ هي صورة عليا من صور التضحية بالنفس ولحظة الاتّحاد مع الكلّ وانضمام الفرد إلى المجموع والاستعداد الكامل للتعاون الوثيق مع الآخرين. صحيح أنّ الحرب تثير فينا فضيلة الشجاعة ولكنّها لا تعني انعدام الخوف وشجاعة القلب عند احتقاره للموت وحفاظه على الولاء واستعداده للتطوّع. بل هي تماسك الكلّ وتضامن الأفراد داخل التخطيط العامّ الذي تقوم به الدولة. “إنّ القيمة الداخليّة للشجاعة بوصفها استعدادا للروح إنّما توجد في الغاية المطلقة الأصيلة وهي: سيادة الدولة. والعمل الشجاع هو التحقيق الفعليّ لهذه الغاية النهائيّة, الوسيلة لتحقيق هذه الغاية هي التضحية بالوجود الشخصيّ…”[8]

اللافت للنظر أنّ الحرب هنا ضرورة تاريخيّة من أجل نبذ الآراء الشخصيّة والنزعات الفرديّة وإحياء الأفكار المثاليّة والقيم المطلقة، وكذلك من أجل الحيلولة دون اندلاع الاضطربات الداخليّة والفتن المحليّة ولتعزيز سلطة الدولة. علاوة على ذلك فإنّ بعض الشعوب تلجأ إلى الحرب حتى تكافح من أجل استقلالها وتستعيد حريّتها فتكون هذه الحرب حرب تحرير. من البيّن أنّ الحرب حيلة العقل لكونها تكشف الجانب المزدوج من الطبيعة البشريّة. وتبرز الأفضل من أجل تثبيته وتدعيمه وكذلك الأسوأ من أجل تقويمه وتصحيحه. وهي أيضا صراع من أجل انتزاع دولة ما الاعتراف بها كدولة من مجموعة الدول الأخرى, إذ “عندما تنشب الحروب والنزاعات في مثل هذه الظروف نجد أنّ السمة التي تضفي مغزى على تاريخ العالم هي القول بأنّها صراعات من أجل الاعتراف بشيء ذي قيمة ذاتيّة نوعيّة خاصة.”[9]

على هذا النحو، إنّ السلام الدائم ليس إلاّ حلماز ولهذا فإنّ الخلافات بين الدول يمكن أن تحلّ عن طريق الحرب. والحرب الضروريّة هي التي تكون من أجل خدمة العقل أي هي معركة من أجل المبدإ. والدولة التي تنتصر في هذه الحرب تبيّن فشل المبدإ الذي تمثّله الدولة المنهزمة. لذلك “تبدو الحرب شيئا طبيعيا تماما. ولا شكّ أنّ لها أساسا بيولوجيّا وجيها. وفي الممارسة لا يكاد يكون من الممكن تفاديها”[10]. لكن هل من المعقول أن تكون مثل هذه الأفكار أفكارا طبيعيّة وجيهة؟

II) الإدانة الفلسفيّة لظاهرة الحرب:

“الحرب هي حركة عنيفة الغاية منها الضغط على الخصم حتى يخضع لمشيئتنا…”[11]

لفظ الحرب متأتٍّ من الكلمة الألمانيّة Krieg. ونجده أيضا في الكلمة الإنجليزيّة War . وقد ميّز الإغريق بين Agon وPolé التي تفيد تنافسا يخضع لقواعد وPolemos التي تفيد نزاعا مسلّحا يؤدّي إلى الفوضى. أمّا اللاتين فقد ميّزوا بين Huctatio وBellum. كما تدلّ كلمة الحرب في لسان العرب على معاني السلب والعداوة والكرب والتحرّش بالآخرين. ولا تمثّل الحرب هدفا في حدّ ذاته ولا ظاهرة مستقلّة. بل هي وسيلة لخدمة أهداف تتجاوزها سواء كانت من طبيعة دينيّة أو سياسيّة أو حتى علميّة. وإذا كان كلاوزفيتش يعرف الحرب بأنّها “مواصلة للسياسة بطرق أخرى”، فإنّ خضوع السياسة كليّا لها هو أمر مستحيل لأنّ السياسة هي الملكة العقليّة والحكمة العمليّة التي توجّه الفعل الإنسانيّ. بينما الحرب هي وسيلة عسكريّة غايتها إخضاع الخصم وتجريده من قوّته تعبّر عن نزاع نوعيّ وخصوصيّ بين البشر وعن الصراع الكونيّ من أجل البقاء.

اللافت للنظر أنّ الحرب ليست علاقة نزاعيّة بين شخصين، بل مواجهات عسكريّة شاملة ومتواصلة بين دولتين لا تنتهي إلاّ بانتصار واحدة وانهزام أخرى وتوقيع هدنة بين الطرفين يتوقّف بعدها القتال فترة من الزمن. ومن البديهيّ أن تنتج الحرب العديد من الضحايا. ويقترن فيها القتل بالمؤسّسة العسكريّة ويترتّب عليها دمار شامل ورعب كونيّ وتدمير هائل لكلّ البنى التحتيّة التي تمثّل مظاهر الحياة في المجتمع.

· كلاوزفيتش يرى أنّ الحرب عمل عدوانيّ يستهدف إخضاع العدوّ لإرادة المعتدي.

· رايت يقرّ بأنّ الحرب هي الظرف المناسب الذي يسمح بحلّ النزاعات بين المتخاصمين بالقوّة العسكريّة.

· بوتول يؤكّد أنّ الحرب هي كفاح مسلّح ودمويّ بين مجموعتين منظّمتين.

وسواء كانت الحرب نشاطا حرّا للروح أو شكلا نافعا من عقلنا وشرطا لوجودنا مرتبطة بغريزة الطبع وتضع طموح الإنسان نحو الحريّة موضع رهان فإنّها حرب ضارية تترتّب عليها نتائج اجتماعيّة مأسويّة وانعكاسات بيئيّة ونفسيّة خطيرة. يمكن أن نميّز بين الحروب بين الدول وهي حروب انبثاق وانصهار وبين الحروب الأهليّة وهي حروب إنهاك واستنفاذ.

تحاول الفلسفة أن تحكم على الحرب من وجهة نظر الأخلاق والحقّ لتميّز بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة. فتكون الحرب عادلة إذا كانت الغاية منها إقامة سلم أبديّة دون إكراه وإذا كان السبب عادلا ووجيها وإذا كانت الحرب معلنة من طرف سلطة مشروعة وتحارب الكذب والنفاق والظلم والاستعمار. وتكون غير عادلة إذا كانت من أجل النهب والسلب وارتبطت بنزعة استعماريّة تسعى إلى التوسّع والهيمنة. من جهة تبدو الحرب مقدّسة إذا كانت دفاعا عن النفس أو ردّ اعتداء. ومن جهة مقابلة، تبدو محرّمة ومدانة أخلاقيّا إذا كانت حربا ظالمة وتسبّب الكثير من المجازر والكوارث. وإذا ما حكمنا عليها بموضوعيّة وتجرّدنا من كلّ الميولات الذاتيّة والانطبعات الشخصيّة فإنّ الحرب مهما كان نوعها لا يمكن أن تكون بأيّ شكل حربا نظيفة مشروعة.

ماهو بديهيّ أنّ الحرب تعلّم العنف وتشجّع على التطرّف في ردّ الفعل والتعصّب في الموقف. وتضع أهواء الطبيعة البشريّة الهشّة متّفقة مع وحشيّة الأحداث عندما تجعل سهولة الحياة اليوميّة تختفي لتبرز للعيان حياة معقّدة صعبة غابت عنها الملامح الأساسيّة البسيطة لحياة كريمة وحضر البؤس والصراع على المياه والقمح ومصادر الطاقة. من هذا المنظور ترتبط الحرب بالموت والقسوة وتعادي معاداة شديدة الحياة لأنّ رحى المعارك لا تترك وراءها إلاّ الجثث المشوّهة والأرواح المزهوقة ظلما, “إنّ الدمار الشامل الذي يحدثه الإنسان أقوى عشرات المرّات من الدمار الذي تحدثه الطبيعة لأنّ الإنسان يريد هذا الدمار ولذلك ينظّمه بذكاء…”[12]

إنّ اختراع البارود والبندقيّة والسّلاح الفتّاك لم يجعل الحرب أكثر إنسانيّة عندما قلّل من المواجهة المباشرة بين الأفراد أثناء المعارك وعندما حرم النبلاء والطبقة الحاكمة من ميزة السيطرة على العتاد والانفراد بامتلاك وسائل القوّة. بل ضاعفت من كمية القنابل والقذائف التي تطلق في برهة زمنيّة خاطفة. وزادت من معدّل القتلى والضحيا في كلّ معركة. إنّ ما يسمّى اليوم بالحرب النظيفة هو في الحقيقة حرب الأرض المحروقة التي ازدادت وحشيّة وضراوة إذ أنّ عدد الأبرياء والمدنيّين الذين يتساقطون أثناءها أكبر بكثير من عدد العسكريّين والمقاتلين. كما أنّ السّلاح النوويّ الذي وقع استعماله في الحرب العالميّة الثانية مازال وصمة عار في جبين الإنسانيّة بسبب حجم الدّمار الذي خلّفه والخدش الأخلاقيّ الذي أحدثه في الكرامة الإنسانيّة لأنّ العالِم الذي اخترع القنبلة النوويّة كان في تصوّره أن يتمّ استخدامه لفائدة الإنسانيّة في توفير الكهرباء والطاقة الحراريّة لتجويد حياة البشر، وليس للفتك بالأرض ومن عليها. غير أنّ هذا السّلاح النوويّ الذي ارتبط ظهوره بصعود التقنية أصبح يثير العديد من الأسئلة والتأمّلات المرتبطة بغائيّة الحياة ومستقبلها على المعمورة ومسألة المصير والمعنى من الوجود وضرورة تحمل مسؤوليّة الأمانة والاستخلاف والتعمير في الكون.

إنّ الكشف عن أسباب اندلاع الحروب ودواعيه يعدّ مقدّمة لازمة وضروريّة لرفضها وإدانتها والعمل على تفاديها وإيقافها. والحقّ أنّه توجد عدّة أسباب تقف وراء تفجّر الأوضاع، منها:

­ أسباب طبيعيّة وبيولوجيّة:

فقد بيّن داروين، في كتابه «أصل الأنواع»، أنّ الكائنات الحيّة تصارع من أجل البقاء. وتستعمل في هذه المعركة جميع الأسلحة المتوفّرة بيدها لأنّ قانون الحياة هو الصراع من أجل البقاء. وذكر أنّ البقاء للأصلح وأنّ العدوان غريزة طبيعيّة، فالكائن الحيّ عدوانيّ بطبعه. ويفسّر هوبس المنافسة والاحتراس والاعتداد بالنّفس كثلاث علل رئيسيّة توجد في الطبيعة البشريّة وتؤدّي إلى التنازع.

­ أسباب ثقافيّة سياسيّة:

تشّجع بعض الثقافات والإيديولوجيّات على العنف والإرهاب والاعتداء على الآخر عندما تحاول بعض الدول فرض نموذجها السياسيّ بالقوّة وتسعى إلى تصدير أفكارها إلى العالم الخارجيّ عن طريق الحروب وتوسّع مجال نفوذها وسيطرتها على الآخر بالغزو والإكراه.

­ أسباب اقتصاديّة:

إنّ الصراع حول الموارد الطبيعيّة وحول الأسواق والعمالة هو لغة العصر بفعل بروز قانون النّدرة والاحتكار وبفعل سيطرة بعض الشركات متعدّدة الجنسيّات على منابع الطاقة والغذاء والبضائع المصنّعة. لذلك تخوض بعض الدول حروبا بدعم من هذه الشركات من أجل فتح الحدود المغلقة وتحرير التجارة العالميّة وغزو الأسواق وترويج البضائع ووضع يدها على مدّخرات الدول النامية وخيراتها.

­ أسباب نفسيّة:

أكّد فرويد أنّ الميل إلى العدوان لدى الأفراد والشعوب ناتج عن تغلّب غريزة التاناتوس (حبّ الموت) على غريزة الإيروس (حبّ الحياة) وانتصار دوافع الكره والتباغض على دوافع التواصل والتحابب، قال: “كلمة شبق هي في محاورة المأدبة غرائز تسعى إلى التدمير والقتل والتي نصنّفها حقّا على أنّها الغريزة العدوانيّة أو التدميريّة.”[13]

­ أسباب اجتماعيّة:

إنّ الإنسان لااجتماعيّ بطبعه لأنّ وضعه الاجتماعيّ هو وضع الصراع والنزاع. فهو يتميّز في تعامله مع الآخرين بالعدوانيّة والنفور وبعدم تخلّيه عن استقلاليّة إرادته لإشباع رغباته وإرضاء أهوائه وهو نتيجة لِلااجتماعيّة الاجتماع البشريّ، كما بيّن كانط وكذلك بسبب التنافس والجشع وحبّ التملّك.

إنّنا عندما نقتصر على الإدانة الأخلاقيّة للحرب نكتفي بالصراخ بأعلى أصوتنا لنلعن الحرب والداعين إليها والمساهمين فيها لما تجلبه من خراب ودمار ولكونها شرّ من صنع الشياطين تسبّب الهلاك لجميع الأطراف. وذلك كلّه لايعني شيئا على الإطلاق ولا هو يعمل على منع ظاهرة الحرب بل إنّها صرخات متألّم يكتفي بأن يلعن المرض دون أن يحاول فهمه وتشخيص علله وأسبابه حتى يتمكّن من علاجه. من هذا المنطلق لابدّ أن يعمل المفكّر الفيلسوف على معرفة أسباب الحرب ويحدّد الضمانات التي ينبغي أن تتوفّر حتى يتمّ تلافيها وتحقيق السلام الدائم. ومن الواضح هنا أنّ الحرب رذيلة والسلم فضيلة وأنّه ينبغي أن يعمل الجميع على وقف الحرب وإقامة السلم. ولكن كيف يمكن تحقيق مثل هذا المطلب؟

III) التدبير الفلسفيّ لمطلب السلم الدائم:

“الحقّ المدنيّ وحقّ الشعوب…يتطوّر باتجاه السلام الدائم الذي يستطيع البشر أن يعِدوا أنفسهم به بشرط واحد هو أن يستمرّوا في التقارب.”[14]

والحقّ أنّ الأمل في السلام كان يراود الإنسان منذ أقدم العصور وكان الشوق إلى تحقيقه عامّا وعارما بين البشر. وساهمت فيه الأساطير والأديان والفلسفات. لقد كان إله الحرب Ars عند الإغريق تحت مراقبة إله السلم Irens ومساعدته. كما أنّ أوّل معاهدة سلام في التاريخ هي تلك التي وقّعها فرعون مصر رمسيس الثاني وحيتيثار ملك الحيثيّين في القرن 13 قبل الميلاد، إضافة إلى أنّ النصوص الدينيّة التي تدعو إلى السلام جاءت لتنسخ النصوص التي تدعو إلى القتال.

ففي المسيحية، مثلا، نادى بولس الرّسول أهالي كورنثوس قائلا: “سالموا جميع الناس” لأنّ “المحبّة هي تكميل الناموس” و “البشر أسرة واحدة فقد عمّدنا جميعا روحا واحدة لنؤلّف جميعا جسما واحدا ينتظم اليونانيّين والعبيد والأحرار.” وهذه الرسالة جاءت لتنسخ ما ذكر في إنجيل لوقا (الإصحاح13:45-50) عن السيّد المسيح: “لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاما على الأرض ما جئت لألقي سلاما بل سيفا…جئت لألقي نارا على الأرض…أتظنّون أنّي جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلاّ أقول لكم…دع من لا يملك سيفا يبيع ثوبه ويشتري سيفا.” نفس الأمر يتبيّن لنا عندما نعود إلى القرآن فآيات الحرب والسلم هي من الآيات المتشابهات. فنحن نجد آيات تدعو إلى الجهاد والقتال مثل قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: “قاتلوا المشركين كافّة”، وفي الآية 76 من سورة النساء: “قاتلوا أولياء الشيطان”. ولكنّه عزّ وجلّ ربط الحرب بعدّة شروط منها منع اندلاع الفتنة في الآية 39 من سورة الأنفال: “قاتلوهم حتى لا تكون فتنة”, وفي حالة الدفاع عن النفس ورد الاعتداء في سورة البقرة: “قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا”, وقد ذكر القتال وهو شيء منفّر مكروه: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”. بيد أنّ الإسلام الحنيف يجبّ ما قبله ويدعو إلى الإخاء واللّين والرّفق واليسر والسماحة ويُشرعِن حقّ الاختلاف وحريّة المعتقد ويدعو إلى التدافع والتكاتف وإلى السلام,إذ يقول الله تعالى في الآية 208 من سورة البقرة: “يا أيّها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة”, ويقول عزّ وجلّ في الآية 61 من سورة الأنفال: “وإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها”. أمّا في الفلسفة فقد دعا الرواقيّون منذ أقدم العصور إلى تحرير البشريّة ممّا يكون سبب تنازعها واختلافها من فروق اللغات والأديان والأوطان. ونظروا إلى الناس جميعا وكأنّهم أسرة واحدة يحكمها قانون العقل المستقيم وتسيّرها الأخلاق الطبيعيّة. وفي القرن السادس عشر هاجم إيرازم الحرب ووصفها بأنّها انتحار جماعيّ في كتابه: “الإنسانيّة ضدّ الحرب” ودعا كلّ إنسان إلى بذل أقصى جهد من أجل إيقافها أينما اندلعت لتعارضها مع المبدإ الذي خلق من أجله الإنسان. فالإنسان لم يخلق من أجل الدّمار والهدم والخراب بل من أجل المحبّة والصداقة وخدمة غيره من البشر. كما بيّن منظّرو مدرسة الحقوق الطبيعيّة وخاصة غروسيوس أنّ الحرب ترمز إلى حالة الطبيعة التي تظهر فيها العلاقات بين الناس علاقات عنيفة. أمّا في الحالة المدنيّة فينبغي أن يعمّ السلام والأمن لأنّ العلاقات بين المواطنين يتكفّل القانون بتنظيمها تنظيما عقلانيّا.

وما تجدر ملاحظته أنّ معارضة الفلسفة للحرب بلغت أوجها مع كانط في كتيّبه الصغير: “مشروع السلام الدائم” الذي ظهر سنة 1795 والذي أعاد التذكير فيه بمشروع الأب دي سانت بيير1658-1743 الذي أكّد على ضرورة إنشاء حلف دائم بين كلّ الدول لحمايتها من الحروب وضمان أمنها ضدّ كلّ اعتداء أجنبيّ. لقد تضمّن كتيّب كانط ستّ موادّ تمهيديّة تصوغ الشروط السلبيّة للسلام وهي:

1- لا يجوز أن تتضمّن معاهدة السلام أيّ بند سريّ للاحتفاظ بحقّ استئناف الحرب.

2- لا يمكن امتلاك دولة مستقلّة عن طريق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة.

3- الجيوش الدائمة يجب أن تزول نهائيّا مع الزّمن.

4- لا يجوز اقتراض ديون وطنيّة من أجل مصالح خارجيّة للدولة.

5- لا يجوز لأيّة دولة أن تتدخّل في نظام دولة أخرى أو حكمها.

6- لا يجوز لدولة في حرب مع دولة أخرى أن تقوم بأعمال عدوانيّة من شأنها أن تجعل من المستحيل عودة الثقة المتبادلة بينهما لدى عودة السلام، مثل الاغتيال، دسّ السمّ، خرق امتياز ممنوح، التحريض على الخيانة.

أمّا الشروط الإيجابية لإقامة سلم دائم فهي عند كانط ثلاثة:

1- يجب أن يكون النظام السياسيّ لكلّ دولة هو النظام الجمهوريّ.

2- يجب أن يؤسّس القانون الدوليّ على اتّحاد بين الدول الحرّة.

3- يجب أن يقتصر القانون الدولي على شروط الضيافة العامّة.

ما نلاحظه أنّ التقارب بين الشعوب والحوار بين الدّول والتفاهم بين الأديان والاحتكام إلى قيم الإنصاف والصداقة وحسن الضيافة والصفح والمصالحة هي شروط الإمكان الحقيقيّة لإرساء قاعدة لسلام مقبول في المعمورة. رغم تأكيد كانط على الدور الذي ينبغي أن يلعبه الفلاسفة في تنوير الحكّام فيما يتعلّق بمخاطر الحروب ومنافع السلام، ورغم الجهود التي بذلها لبلورة الشروط الماديّة والطبيعيّة الكفيلة بضمان السلم إلاّ أنّه ظلّ يعتبر هذا الأمر مثلا أعلى منشودا وغاية بعيدة المدى وأملا بشريّا لا تستطيع البشريّة إدراكه إلاّ إذا انتظمت الأمم في هيئة دوليّة تتولّى منع اندلاع الحرب والمحافظة على السلم. لكن ماهي المحصّنات والضمانات التي ينبغي على الفلسفة أن توفّرها حتى تتأبّد حالة السلم؟ ثم ماذا ينبغي عى الدول أن تفعل في حالة السلم حتى لا تتحوّل إلى حالة مرض ووهن تعوق البشر عن تنمية قدراتهم وتطوير طاقاتهم نحو ماهو أفضل؟ هل يكفي أن نربط السياسة بالأخلاق والحكم بالنظام الديموقراطيّ الذي يحترم حقوق الإنسان لكي نحافظ على سلم دائم؟

خاتمة:

“ومن الواضح أنّ الغرب يتحدّث عن السلام ويفكّر في الحرب… فمتى يتغيّر الغرب ذهنيّا؟ ومتى يعترف بالآخر المساوي له والكفء في الحوار معه. ومازالت المركزيّة الأروبيّة، مصدر العنصريّة الدفين، هي التي توجّه مراكز الأبحاث طالما ظلّ الاستقطاب قائما بين المركز والأطراف.”[15]

تتراوح الحرب بين التبرير الفلسفيّ والإدانة الأخلاقيّة. وهي ظاهرة ملتصقة بالتاريخ ومرتبطة بمسيرة الدول وحركيّة الشعوب، تسبّب الويلات والمآسي. وتنتج عنها عدّة منافع وفوائد ومضارّ. ولكنّ مضارّها أكثر من منافعها. وقد سعى الناس منذ بداية تواجدهم إلى إيقافها. وحاولوا إحلال السلام فيما بينهم. ولكنّهم فشلوا. وظلّ السلم مجرّد حلم يتخيّلونه في أذهانهم ولا يعيشونه في الواقع. بينما أصبحت الحرب اللازمة الضروريّة لسير الأحداث في التاريخ لا نكاد نستيقظ من هول اندلاع حرب حتى نسمع خبر تفجّر نزاع جديد وإلغاء لاتفاقيّة هدنة لم تدم إلاّ زمنا قصيرا. ورغم ذلك يبقى التصوّر الخاطىء للسياسة هو التعطّش إلى الحرب والتصوّر الصحيح لها هو الجنوح إلى السلم.

في الواقع لا يجوز أن نتحدّث عن الحقّ في الحرب لأنّ المفهومين لا يمكن أن يوجدا جنبا إلى جنب. فحضور واحد منهما يلغي وجود الآخر بشكل آليّ؛ فإمّا الحقّ وإمّا الحرب، وليس الإثنان معا. فنتحدّث عن حرب الحقّ وحقّ الحرب. ثمّ من له المشروعيّة في إضفاء صفة الحقّ على الحروب؟ ومن خوّل له ذلك؟ ربّما هو القويّ، لا لشيء إلاّ لأنّه قويّ. ولكن ماهو دور الضعيف في ذلك؟ سواء كانت الحرب من أجل الهجوم أو من أجل الدفاع، وسواء كانت طويلة الأمد أو قصيرته فإنّها لا تستغرق إلاّ بضعة أيّام. وسواء كانت حربا أهليّة أو حربا ثوريّة فإنّها إطلاق للعنان لممارسة العنف ومجال للتخويف والإرهاب والإقصاء والتمييز. والخاسر الأكبر من اندلاعها هو الإنسان والحياة على الأرض بحيث يصعب بعد ذلك إخمادها. إذ كيف يمكن إيقاف الحروب وبعض الدول الكبرى ترى أنّ إحلال السلام لا يكون ولن يتمّ إلاّ بشنّ حرب حاسمة؟ فكيف نؤسّس السلم بتغذية روح القتل والكراهية بين الشعوب؟ وكيف ننبذ الحرب ونحن مكرهون على خوضها سواء للدفاع عن النفس أو للتعبير عن نبذ الحياة والصحة الأخلاقيّة للشعب ولتقوية روح التضامن في الدولة؟ وكيف نحب بالسلم وهو دليل مرض واحتضار ومصدر وهن وضعف؟ أليست الأنظمة السياسية بتغرطرسها واحتكامها المستمرّ لمنطق القوّة هي المسؤولة عن هذه الحروب؟ كيف نفسّر ماقاله سارتر من أنّ كلّ إنسان مسؤول عن أيّ حرب كما لو أنّه هو الذي ساهم في اندلاعها؟ ماذا يقدر الفرد الأعزل أن يفعل أمام هذه الحروب التي قد تتطوّر لتصل إلى النجوم حتى وإن كان يعرف أنّه مسؤول عنها؟ ألا نرى أنّ العلاقات بين الدول مازالت تعيش في حالة الطبيعة حيث حرب الكلّ ضدّ الكلّ؟ فمتى نشهد انتقال هذه الدول من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنيّة؟

المصادر والمراجع:
– ابن المنظور لسان العرب المجلد الأول دار صامد بيروت الطبعة الثالثة 1994
– هيجل أصول فلسفة الحق ترجمة لإمام عبد الفتاح إمام مكتبة مدبولي القاهرة
– ميشيل فوكو يجب الدفاع عن المجتمع ترجمة الزاوي بوغرة دار الطليعة بيروت 2003
– كانط مشروع السلام الدائم ترجمة نبيل خوري بيروت 1985
– جان بول سارتر نقد العقل الجدلي الجزء الأول غاليمار باريس 1960
– فرويد أفكار لأزمنة الحرب والموت ترجمة سمير كرم دار الطليعة بيروت 1986
– حسن حنفي مقال: الإرهاب…الإرهاب جريدة الزمان العدد 2233 التاريخ 08/10/2005
Clausewitz .C. De la guerre Collection 10-18.1965
*كاتب فلسفي

[1] ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع، نفسه، ص69.

[2] هيجل: أصول فلسفة الحقّ، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص589.

[3] ابن المنظور: لسان العرب، المجلّد الأوّل، دار صامد، بيروت، ط3، 1994 ص
302/303/304/305.

[4] مكيا فيلي: الأمير، ترجمة فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985، ط 12، ص131.

[5] مكيا فيلي: الأمير، نفسه، ص131.

[6] هيجل: أصول فلسفة الحقّ، نفسه، ص671.

[7] هيجل: أصول فلسفة الحقّ، نفسه، ص590.

[8] هيجل: أصول فلسفة الحقّ، نفسه، ص593.

[9] هيجل: أصول فلسفة الحقّ ،نفسه، ص 604/605.

[10] فرويد: أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، 1986، ص 56.

[11] Clausewitz .C: De la guerre, Collection 10-18, 1965.p51

[12] Jean Paul Sartre, critique de la raison dialectique, éditions Gallimard, Paris 1960

[13] فرويد: أفكار لأزمنة الحرب والموت، نفسه، ص51.

[14] كانط: مشروع السلام الدائم، ترجمة: نبيل خوري، بيروت، 1985، ص 56.

[15] حسن حنفي، مقال: الإرهاب…الإرهاب، جريدة الزمان، العدد 2233، التاريخ 08/10/2005.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب