الله يرحم أيام زمان، وعلى وجه التقريب لا التحديد، من بداية القرن الماضي، صعوداً حتى نهاية السبعينات. إذ كان فيها، شيئاً ولو نسبياً من الذوق الأجتماعي في التعاملات الأنسانية الأخلاقية الصادقة، والفكر والفن الأدبي الراقي. كذلك كانت ساحة التأليف الموسيقي للكلمة الأدبية فصحى ودارجة شعبية، تنبت من أرض حس الواقع، وليس كما هو حاصل اليوم من تدهور مرير لها.
إذ أصبحت بعض الألحان المصطنعة المجافية لحس الواقع– وما أكثرها إنتشارا في الساحة كإنتشار النار في الهشيم — غير قابلة للتلاقح والأخصاب، فهي مجرد ذبذبات صوتية تستنزف الأنغام، فتمجها الآذان، لحرقها مشاعر العبارات الروحية، وحولتها إلى ألفاظاً خاوية المعنى بلاهوية، ومصدرتسويقها، فلانٌ، أو فلان، الذي حمل لقب الملحن الفنان.
يقول “كروتشه” في نقد المذهب ألأخلاقي في الفن :- لانستطيع أن نطلب من الفنان إلا شيئاً واحداً هو التكافؤ التام ، بين ماينتج وما يشعر به. إنتهى.
أولاً يجب أن نعلم أن إيقاع حروف الكلام لحن وأنغام تُغنّي صور المعنى المتدفق من حرارة الروح وتعكس مرآتها النغمية رحم بيئة أرض الكلام. فالجذر اللغوي لكلمة قضى..هو ، ق ، ض ، ى. وفيها القوة، فلا يمكنك تحويل أصوات جذورها القوية الى ضعف وإسترخاء، ولا يمكنك تصوير لحن الخوف بلحن الهدوء والأمان وأنت تعني الخوف، لأنك تشوش المعنى شعورياً. وكذلك علاقة المقام بالكلمات بالمثل، فلابد من تجانس كتجانس كلمات الحزن مع مقام الصبى.
فمن يريد أن يلحن مثلاً ؛ جملة ” أشفق عليك” و “أغضب عليك”، فلكل منها جذورها ولحنها، فلايمكنك تبادل الألحان ليقع لحن أشفق عليك على لحن أغضب عليك. أو خاصمتك على صالحتك، أو الهجر على الوصل، أو شعوري ناحيتك لوردة على لحن حسبيك للزمنْ لأم كلثوم، لأن كلاهما في باب مشاعره لايحتمل إستعارة لحن مشاعر غيره أو نقيضه….الخ. فالمستمع مشاعريا سيرفضها لشعوره بخلل التلحين ورداءته، وبمديات سوء إختيار الملحن لجمله الموسيقية.
فالجذور صوتيا كما عُدت لها بلحن معينْ تحمل المشاعر وتطابق المفهوم، الذي تربّت عليه الأذان والنفوس، فأن تغير اللحن، إضطرب إيقاع اللغة النفسي وإختلت المشاعر. وهذا رأيي إنطلاقاً من ميزان الجودة في الإنسجام. فأن لا تجد تكافؤ، بين المشاعر المنبعثة من أثر الكلمة لحنا ًغنائيا، ً والمشاعر التي تشع من دلالة اللفظ لغوياً، إعلم إن ميزان ثقافة الصدق النفسي للملحن هو السبب. وكذلك هو ذاته المعيار في فلسفة الإلقاء الشعري والخطابي فلكل كلمة إيقاعها النغمي وطرائق تلحينها بما تتناسب وموقعها لغرضها المنشود. فالشاعر يهجو وعلى الملحن أيضاً أن يهجو في لحنه لكلمات الهجاء وكذلك المديح والحب والكره والرثاء. إذ لايمكن للملحن أن يحول عن لحن المديح إلى إيقاع نغم الهجاء فيه!!.
وبالمثال يستقيم المقال:
نعطي مثال على الصدق النفسي والإنسجام بين لحن حروف الكلمة وشعاعها الحسي في الواقع ولحن الملحن لها. لنوضح ما نقصده:-
أقول……
الصدق في نقل الشحنات الحسية بقوالب جمل ٍ نغمية ، هو الصدق النفسي في التعبير، كما هو عندما تسمع الحان أم كلثوم.(ليس القصد أن تأتي بمثلها وإنما بالصدق النفسي في التلحين).عندما تقول حب أيه ،أو العيب فيكم وفي حبايبكم. يتملكك شعور إنسجام النغم مع ضربات وقع لحن الكلمات الحسي في أذن الواقع.
أو أغدا ً ألقاك ياخوف فؤادي من غدِ فقد بعث الملحن بمشاعر روح التساؤل والأمل ثم التشاؤم من الغد بما طابق روح الكلمة في لحن كلام الواقع،
فتشعر وكأن اللحن الغنائي للكلمة عالج دلالة اللفظ والمعنى لحنياً بروح مشاعر الواقع إجتماعياً .
أي يوصل تياراتها الحسية لاسلكياً لتستقر في قلبك رُغماً عنك، كتلك التي نَقَلَتها معاني الألفاظ اليك ، بصورة كلامية ،لكنها، لها نفس الوقع الروحي بالتلحين الموسيقي، بشكل أجمل إيقاعاً لحنياً، بل يفوق كل صور الكلمات لفظا ً ومعنى صوريا ً، ويتجاوزها الى أعالي السحاب.
فاللحن جمّلها ووضعها في قالب الصدق التلحيني، وكأنما الكلمات بدت هي ذاتها تغني وبصوت عذب، فخلّفت نتائج على الروح وملأتها حباً وإنسانية.
ما فعله الملحن الموهوب الصادق كما فعله الملحنون القدامى الكبار ؛ هو ضافرَ المشاعر ذات الموجات الكهرومغناطيسية الصادرة من القلب مع مثيلاتها المتكونة، من صور ألفاظ الكلمات في فضاء العقل، فزاوج بينهما لتتحول موجات الأنغام الملتهبه بشعلة الصدق الى مسار موجات القلب في قعر الروح. ولذلك هي خالدة لن تموت، تجددها تيارات القلوب في كل زمان.