22 ديسمبر، 2024 2:03 م

فلسفةُ الزعامةَ في أدبِ عماد المطاريحي

فلسفةُ الزعامةَ في أدبِ عماد المطاريحي

في تجربتِه الشِّعريَّة التي بدأها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، يُفْصِح الشَاعِر السومري عماد المطاريحي عن ذّاتٍ هائمة بما من شأنِه المُساهمة في ضمانِ احترام الكرامة الإنسانيَّة، وما يترتَّب على ذلك من اشتراطاتٍ تتسق مع الهويةِ الإنسانيَّة، وتنسجم مع ما يمليه الضمير من المقتضياتِ التي تتجسد أبرز آلياتها في جملةِ سلوكياتٍ من بينها: زراعة الأمل، غرسِ روح التسامح، تعزيز ثقافة التكافل، رفض إيذاء الآخرين وترسيخ تعامل الناس بعضهم بعضًا بروحِ الإخاء. ويمكن القول إنَّ المتلقيَ في تمعنَه بقصائِدِ المطاريحي، وتأمل مفرداتها الشِّعريَّة، يشعر بعناقيدِ الشِّعر تتدلى حاملةً حروفًا بهية تشرح النفس، وتسعدها بإنشادِ أجمل صور الإيثار والألفة والفطرة الإنسانيَّة:
***
جاري أبو ذر الغفاري
من اجوع… يقسم وياي الرغيف
ومن يجوع بچفي أشربه دموع عيني
وثلمه من گلبي العفيف..
والغموس شويه ماي
من نهر مد روحه غِيره..
حتى يروينه محنه
***
ذاتَ سماوةٍ، وفي إحدى الفضاءاتِ الثقافيَّة لسليلةِ أولى المدن الحضاريَّة في التاريخِ الإنساني (أوروك)، قدم عريف الحفل الشَاعِر عماد المطاريحي القادم من شقيقتها الديوانيَّة التي يفوح منها عبق أصالة التاريخ الممزوج برائحَةِ العَنْبَر بطريقةٍ جميلة تليق بخطابِه الإنساني، كان الخجلُ باديًا على وجه المطاريحي حين رافقه أحد المسؤولين عن تنظيمِ احتفالية تأبين صاحب (نخوة عشاير) الشاعِر الراحل محسن الخياط (طيَّبَ الله ثراهُ) بسببِ اشتداد تصفيق الجمهور الذي اكتظت به القاعة، حيث لا مكان لقدمٍ فيها، حتّى اضطر عشرات منهم الاستماع إليه وقوفًا؛ تعبيرًا عن الترحيب بمقدمه الذي بعثَ السرور في قلوبهم، وأدخلَ البَهْجَة على نفوسِهم.
بعد أنْ ارتقى المطاريحي المنصَّة، أعلن أنه سيقرأ قصيدة إلى أحدِ قادة المُجتمع. ولا أراني مُبالِغًا إنْ قلتُ: إنَّهُ بحكمِ الثقافة السائدة في مُجتمعنا، فضلًا عما آلت سنوات المحن، فإنَّ جميع من كان حاضرًا حبس أنفاسهُ متأرجحًا في تفكيره ما بين قبول محتمل، أو رفض أكثر احتمالًا؛ لمعرفةِ هوية (القائد) الذي عناه الشَاعِر، فلا عجبَ إنْ ظنَ الجميع بأنَّ وجهةَ بوصلة الشَاعِر تتجه نحو رمزًا تبوأ منصبًا مرموقًا، أو موقعًا وظيفيًا مهمًا، أو مركزًا اجتماعيًا مؤثرًا وما شابه ذلك، إلا أنَّ المطاريحيَ لم يجعل أيًا منهم مُعَلَّقًا على حبلِ انتظارٍ منشغلًا في التفكيرِ بمقصده، بعد أنْ حسمَ الأمر بقوله:
“سأقرأ قصيدة مهداة إلى أقدمِ عاملَ نظافة في بلديةِ الديوانيَّة العم السيد محمد السيد عنبر”!.
***
بيته طين ..
وكلبه فضه
وبدلته الزركَه سما الله
***
تلكم هي الصفات الثلاث الأساسية التي أهتدى إليها المطاريحي في مهمةِ رسم صورة بطل قصيدته وثيمتها، ولا أظن أنَّ هناك أبلغ منها سموًا وجمالًا روحيًا، فحضارة بلاد الرافدين (الطينية) ما تزال شامخة في الأفق، تحكي للأجيال قصة أقدم الحضارات الإنسانيَّة التي عرفها البشر. وفي أمسنا القريب، كانت الطيبة، فضلًا عن غيرها من الصفَاتِ النَبيلة المتأصّلة في النفوس، حبيسة بيوت الطين على الرغم من صغرِ مساحاتها، وقسوة العيش فيها، لكن اللافت للنظرِ هو اقتران طين بيوت الفقراء بالفضةِ التي ألزم الباري عزّ وجلّ المسلمين وجوبِ الزكاة فيها. ويبدو جليًا من مضمون الصّورة الشِعريَّة هُنا تصوير المطاريحي بحسٍ مرهف لمسألةٍ وجدانيَّة تنحى صوب بياض القلب، وصفاء النفس، ونقاوة السريرة من وساوسِ الضغائن والأحقاد، فضلًا عن غيرها من موجباتِ زكاة النفس التي يندر أنْ نجدها في شخصيةِ القائد أو الزعيم بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، والتي تُعَدّ بوصفها من أبرزِ العوامل المعول عليها في مهمةِ صلاح الذات الإنسانيَّة. ولأنَّ السماءَ سقفٌ واسع وممتد بآفاقٍ لا تحدها حدود، فقد ركن المطاريحي إلى اقتناصِ لون بدلة الشرف التي إعتادَ العم السيد محمد على ارتدائها برمزيةٍ يقصد فيها ما يدور في ثنايا الحياة اليوميَّة بالمجتمعِ المحلي من إرهاصاتٍ ظاهرة للعيان، أو مخفية لا يعلم بها الكثير من الناس.
***
غبشه ينزل يبوس كل شباج
بات براسه موعد
يبوس كل موعد
لكَه الشباج نايم !!
ينعى كحله نرسمت على الدرب خيبه
يقره سالوفة كصيبه
يقره نص من الكمر شباج
والباقي كصيبه
***
زعيمُ أدبَ المطاريحي، لم تخصص لهُ الدولة سيارة فارهة، أو مصفحة، ولا حماية، ولا نثرية، ولا يأبه بشعاراتٍ رنانة لإغراءِ الناس، فبطل قصِيدته لا يملك شيئًا وهو بحاجةٍ إلى أشياءٍ كثر، فيما الزعيم – بالمفهوم التقليدي – كل شيء في متناول يده، لكنه لا يفكر إلا بما يُرسّخ نفوذه، ويدعم ما تتطلب مصالحه الشخصيَّة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الكبير السيد محمد لا يملك غير قطعة قماش عتيقة (صُّرَّةُ) حصل عليها من عرقِ جَبِيْنه، لكنها تبدو لعيالِ الله تعالى أكثرُ جاذبيَّةً من موكبِ الزعيم، فلا عجب إنْ تأبطَ القائد السيد محمد كُلَّ فجر أيقونة الكرامة المُشبَعة بملحِ أرض العراق الطيبة. وعلى الرغمِ مما تكتنز هذه الصُّرَّة من شحناتِ ألمٍ، وآهات معاناة، لكنها ما تزال بَيْضاء ناصِعة، وإنْ تقادمت عليها السّنين؛ لأنَّها مضمخة بالانتماءِ إلى وطنٍ حباه الله سبحانه وتعالى بما يعجز وصفه من النعمِ، وتحملها يد إنسان يملك ضميرًا حي يخشى الباري عزّ وجلّ من فعلِ ما يغضبه، فكونه أميًا لا يُقلِّل إدراكه بالفطرةِ أنَّ الضميرَ صوت الرحمن في الإنسان.
***
بيده شايل (صره) بيضا
بيها حفنة زهدي حايل معفر بعطر
التراب
بيها نص رغيف بايت نعجن بدموع
وعذاب
بيها قراّن المدينة ونص اّلهي يبدأ اقرأ (للتراب)
بلحظه تتحول ولاية
أرشيف جيبه
المضيعله قصيده
المضيعله رساله
المضيع ماي وجهه
المضيعله حبيبه
المضيعله زعيم
المضيعله عريضه مهمش عليها حرامي (الله كريم)
الريح معتمدك بريد
***
لعلَّ من المناسب الإشارة هُنا إلى أنَّ السيد محمد لم ينقطع عن عمله، حتّى مع انهيارِ مؤسسات الدولة في عام 2003م، حيث دأب على ممارسةِ عمله يوميًا من الصباحِ ولغاية الساعة الثالثة عصرًا من دون مراقب مثلما أسرني به بعض الزملاء في مدينةِ الديوانيَّة، فصاحب القلب الكبير – بخلاف الكثير من المسؤولين – يحرص على أنْ يكونَ رمزًا للتسامحِ والمحبة وإرضاء الضمير، فتراه لا يخاصم، ولا يقاطع، ولا يفشي سرًا، ولا يحاول أنْ يسرقَ من وقت العمل. وعلى الرغم من افتقاره إلى نعمةِ القراءة والكتابة بفعل ظروفه التي لم تمنحه فرصة التعلم، إلا أنَّه غدا مدرسة كبيرة في ترسيخِ القيم الإنسانيَّة النبيلة. وصدق المطاريحي حين نعته بـ (حرز الشوارع)، فهو تعويذة المدينة الفاضلة بامتياز.
***
انت اطول من اّذان .. وبالضهاري تصير معضد بيد طفله
الغبشه رسمتلك خريطه وطن باجر
النفط، والدولار، والكرسي وباء
الخيل والغارات والتاريخ والقالة جزيره
وانته والمكناسة والسكران والنخلة
مدينه
يا صديق المطر يا حرز الشوارع
الغيم يعرب دمعتك .. فرحه متأخرة الفعل تقديره باجر
***
السيد محمد، إنسان بسيط في حياته، كبير بسجاياه، متسامح يعشق الحياة، لا يعرف الغل والحسد، إنَّه باختصار يسمو بأخلاقه ليرتقي إلى رموزِ أدب اليوتوبيا في مُجتمع تسوده الكثير من ملامحِ أدب الدستوبيا!,
***
والله احبك
تمسح دموع النوافير ودمعتك تموت زعلانه عله خدك
تمسح جروح الشوارع بهيده وتغني عله كَدك
تخيط جروح الشوارع وانته كله جروح كلبك
تعرسّ النافور لو شمة ثيابك
تشهك الشجره اذا شمة ثيابك
الريح عيب يغثله شجره وانت واكَف
لو يفزز ورده حمره
ياما غنوك الزغار…
جدي ضمنه شهايدنه التجيك
جدي حتى احلامنه بودها تجيك
جدي خاف الشمس تنزل
نودي طيارتنه تفيي عليك
جدي هم عندك شهاده ؟
جدي لوانت شهاده ؟
جدي ابوك الشارع امك ؟
ليش تحسب جرحه جرحك
جدي هم عندك ذنوب ؟
جدي من تذرع الشارع روحه جيه جنك
تفصله ثوب !!
جون وجه الشارع ودعوتك بيضا
شوك وجه الشارع وجفك حرير
شنو جدي انت امير
انت وحدك تدرك اسماء الاشاره
انته وحدك كاتم اسرار النثايه الجابن وحلفن عذاره !!
والله لو نفهم قضيتك جان ودعنه الهزائم
مد اديك بنفسي ابايع
اشهد انك نبي الشارع
اشهد انك تعرف اسرار الضفيرة
انزل وصلي امام بناس لسه ويه الصنم عدها اتصال
المكنسة اقرب للصليب
المكنسة اقرب للقنوت
لفكر ثائر
الوجه عامل
الشكل جايع
المكنسة ساعد عراقي بروح جامع
المكنسة اقرب للتراب وانت اقرب
للوطن
المكنسة اول دين ناطق
وانت اّخر نبي صامت
***
تحية لرمز النقاء، الكبير بسموه نحو الخير والفضيلة السيد محمد السيد عنبر، وكلنا نرفع له القبعات عاليًا؛ احترامًا وتقديرًا وفخرًا وعرفانًا، واعتزازًا، فهو مصدر فخر واعتزاز لكلَّ إنسانٍ شريف، وكلّ صاحب ضمير حي. وشكرًا من القلبِ شاعرنا القدير – شاعر الجمال – الأستاذ عماد المطاريحي على هذا الإنجاز الإبداعي الماتع الساعي إلى الدفاعِ عن كرامةِ الإنسان وترسيخ القيم العليا، والذي ترك مساحة مؤثرة في النفوسِ النقيَّة الباحثة عن مراتعِ الخير والصفاء والجمال الإنساني، وما من شأنه الغوص بآفاقٍ أرحب في عوالمِ الحب بمعناه السامي. ويقينًا كلنا نشارككَ محبة زعيمك السيد محمد، ونعدهُ رمزًا لإرادةٍ إنسانيَّة فاعلة، فتجربته تُعَدّ درسًا بليغًا في ميدانِ التربيَّة الجماليَّة. وختامًا: مرحى لك ما اخترت من قائدٍ يندر وجوده في هذا الزمنِ الرَدِيء.