لا تعنيني كثيرا الاتهامات التي يوجها البعض الى حركة المقاومة الإسلامية حماس. سواء فيما يتعلق بعلاقتها بإيران ومراعاة اجنداتها الخاصة، او وصف معركتها ضد الكيان الصهيوني في هذا الوقت بالذات، بانها تصب في خدمة إيران وتعينها في صراعها مع الامريكان حول ملفها النووي او رفع الحصار الاقتصادي عنها. فهذه الاتهامات، على الرغم من صحة بعضها، وقناعة كاتب هذه السطور بها، فأنها لا تبرر الوقوف ضد حماس في المعركة التي خاضتها مؤخرا ضد الكيان الصهيوني الغاصب. او حتى الوقوف على الحياد. فالخلاف مع حماس او غيرها من فصائل المقاومة، مهما كان شكله ونوعه، لا يرتقي الى مرتبة صراع الوجود مع الكيان الصهيوني. فالأول يمكن إيجاد حل له في أي وقت، في حين ان الثاني لا يمكن حله الا بطرد هذا الكيان من كامل التراب الفلسطيني. بمعنى اخر فان رفض سياسة حماس وعلاقاتها بإيران، لا يعطينا الحق بالوقوف ضدها او التفرج عليها. خاصة وان هذه المعركة، التي لقنت الكيان الصهيوني درسا لن تنساه، حظيت بتأييد كل الشعب الفلسطيني ومنظماته وفصائله المختلفة، بما فيهم الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الخط الأخضر، او الذين يطلق عليهم عرب 48. بل ان السلطة الفلسطينية التي تتعامل مع الكيان الصهيوني قد حمل رئيسها محمود عباس الكيان الصهيوني مسؤوليتها. ليس هذا فحسب، وانما شارك البعض منها في هذه المعركة. مثل حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية القيادة العامة. في حين وقفت شعوب العالم الى جانب الشعب الفلسطيني. حيث اعتبرت قتاله ضد الكيان الصهيوني حق مشروع اقرته القوانين السماوية والوضعية.
اما موقف زعماء الردة من العرب، ومرتزقتهم واقلامهم المأجورة، فهو موقف مشين ومخجل. حيث وجدوا في علاقات حماس بإيران مبررا للوقوف ضدها، وبالتالي الوقوف مع الكيان الصهيوني المغتصب. وهذا ليس بالأمر الجديد عليهم. فهؤلاء الأشرار قد رفعوا راية الاستسلام امام هذا الكيان الغاصب منذ أكثر من اربعة عقود، وعلى وجه التحديد منذ زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى تل ابيب في نوفمبر سنة 1977 وعقد معاهدة سلام معه. بل أصبح ذكر كلمة المقاومة كافية لإدخال الخوف والرعب في نفوسهم. وهذا امر لا يدعو للاستغراب، فأي انتصار يحققه الشعب الفلسطيني، سيمتد لهيبه الى عقر دارهم.
دعونا نغير الاتجاه قليلا، فهذه المعركة المشرفة، التي دارت رحاها على مدى أكثر من عشرة أيام، ومشاركة حركة المقاومة الفلسطينية فيها، بكل فصائلها المسلحة، كل حسب قدرته واستطاعته، قد اكدت تمسك الشعب الفلسطيني بالثوابت الوطنية والقتال من اجل استعادة حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها إقامة دولته على كامل التراب الفلسطيني. وفي نفس الوقت، مثلت هذه المعركة القيم السياسية غير القابلة للتنازل، او حتى الجدال حولها. ولأنها كذلك فان الشعب الفلسطيني، يعود ليقاتل من اجلها، مهما طال الزمن وغلت التضحيات. فالاستعمار الفرنسي للجزائر دام 132 عاما. ولكنه هو الذي هُزم في النهاية. الامريكيون ارتكبوا من الجرائم الوحشية في فيتنام الكثير. ولكنهم هزموا أيضا. وهزموا في لبنان والصومال وأخيرا في أفغانستان. اما المقاومة العراقية فقد مرغت انف جنود الاحتلال الأمريكي بالتراب. وحتى لو تمكن الكيان الصهيوني من الصمود امام مقاومة الشعب الفلسطيني عقود أخرى من الزمن، إلا انه لن يقدر على اجبار هذا الشعب الجبار على القبول بالأمر الواقع. بمعنى اخر، فان محاولات هذا الكيان المسخ لأنهاء الشعب الفلسطيني ستبوء جميعها بالفشل. هكذا هو الامر دائما. وكما يقال “إذا عجز المجتمع عن المقاومة فالحجر سينطق ليقاوم”.
لقد حققت هذه الحرب المشروعة لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية انتصارات مذهلة. نذكر منها، ولو من باب الإشارة، وصول صواريخ حماس الى تل ابيب، عاصمة الكيان الصهيوني، واشعال الحرائق في جميع أرجائها، على الرغم من القبة الحديدية، التي وصفها الإسرائيليون بانها الدرع الذي لا يمكن لاي صاروخ من اختراقها، الامر الذي اجبر الحكومة الصهيونية على غلق مطاراتها بوجه الملاحة الجوية من جهة، واجبار ما يسمى بالشعب الإسرائيلي على الدخول في الملاجئ من شدة الخوف والرعب من جهة اخرى. وهذا لم يحدث مثله طيلة العقود الطويلة من الصراع بين الكيان الصهيوني والأمة العربية. فباستثناء صواريخ العراق التسع والثلاثين الذي أطلقها الراحل صدام حسين على تل ابيب، لم يحدث وان فعلتها أكبر الجيوش العربية. الامر الذي دعا مجلس الامن الصهيوني المصغر الى اعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد. بعد ان فشلت جميع توسلاته للأصدقاء من اقناع حماس بإعلان وقف القتال من جانبها. وهذا بحد ذاته، يعد هزيمة منكره لهذا الكيان الصهيوني. اذ ان حدوث مثل هذا الامر، لا يتم بين جيش قوي وعملاق كالجيش الصهيوني وحركة مقاومة صغيرة ذات أسلحة متواضعة، وانما يتم بين جيوش كبيره لدول متحاربة، بعد ان يعجز كل طرف فيها من تحقيق اهدافه.
اما الانتصارات التي تحققت على الجهة الأخرى، فقد فشلت جميع العمليات العسكرية ضد غزة، رغم وحشيتها، بما فيها محاولة اجتياح غزة، ومصادرة الأسلحة الموجودة في مخابئها واعتقال من تعثر عليه من قادة حماس وكوادرها المتقدمة. وهذا يعني بان حركة المقاومة في غزة ستحتفظ بسلاحها كاملا، مثلما تحافظ على مصانعها العسكرية التي تمكنها من دخول أي معركة قادمة وفي الوقت الذي تشاء. الامر الذي سيجبر قادة هذا الكيان التفكير ألف مرة، قبل القيام باي عدوان، سواء على غزة، او سواها من المدن الفلسطينية. ومن هذه الانتصارات أيضا تمكن المقاومة الفلسطينية بسلاحها البسيط من معادلة أكبر الة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط. ولا يغير من هذه الحقيقة حساب ميزان القوى العسكري المختل لصالح الكيان الصهيوني. فمثل هذه الحسابات لا مكان لها بين جيش معتدي وشعب مصر على مواصلة المقاومة مهما طال الزمن وغلت التضحيات.
في الجانب السياسي فقد تحققت انتصارات هامة. حيث استطاع سلاح المقاومة ان يجبر العالم على العودة الفورية الى ملف القضية الفلسطينية ووضعه على جدول اولياته، بعد ان وضع هذا الملف فوق الرفوف العالية، الى درجة كاد العالم وشعوبه نسيان هذه القضية العادلة بالكامل. في حين ان الراي العام العربي والعالمي قد استنفر قواه ووقف الى جانب الشعب الفلسطيني، حيث خرجت المظاهرات في مختلف دول العالم وقاراته الخمس. بل ان بعض فرق كرة القدم البريطانية قد احتفل احداها برفع العلم الفلسطيني. في مقابل ذلك تعرض هذا الكيان الى حملات ادانة واسعة، جراء عدوانها على الشعب الفلسطيني وقصف مدينة غزة وهدم المنازل والبنايات على رؤوس ساكنيها. وهذا بدوره قد أعاد التفكير من قبل جميع فصائل المقاومة، السلمية منها والمسلحة، لتوحيد نفسها في جبهة عريضة يكون عنوانها لا طريق لتحرير فلسطين الا عبر الكفاح المسلح. خاصة وان الطريق السلمي وابرام المعاهدات مع المحتل الصهيوني، لم يجن منها الشعب الفلسطيني سوى الخيبة تلو الأخرى.
من جانب اخر، فان هذه المعركة قد إعادة الثقة للشعب العربي من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي، وامنت بقدرته على الحاق الهزيمة الكاملة بالمحتل الصهيوني. الى درجة لم يعد بإمكان عملاء الصهيونية في المنطقة والاقلام المأجورة من إشاعة روح الياس والخنوع في صفوفه مرة اخرى، او دفعهم الى الاستسلام للأمر الواقع. لكن اهم هذه الانتصارات السياسية والمعنوية على الاطلاق، تمثلت في تأكيد حقيقة، حاول عملاء الاحتلال تسفيهها. حيث اثبت المقاتلون في غزة، قدرة الشعوب، مهما كانت صغيرة او ضعيفة، على تحقيق الانتصار ضد اية قوة غاشمة، مهما علا شانها ومهما امتلكت من الة عسكرية عملاقة. وهذا امر مهم جدا، بسبب التراجع الذي حدث لحركات التحرر في العالم، ونجاح اعلام الدول المستعمرة من إشاعة روح الياس حول قدرة الشعوب على تحقيق الانتصار. خاصة وان الشعب الفلسطيني في غزة لم يتجاوز عدده مليون نسمة، ومساحة غزة لا تعادل حيا من احياء اية دولة عربية صغيره. حيث لم تتجاوز مساحتها 360 كيلومتر مربع.
اذن من حق الشعب الفلسطيني خصوصا والشعب العربي عموما ان يحتفلوا اليوم بهذه الانتصارات الكبيرة.
اليس كذلك؟