يكتسب يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) أهميّة كبيرة في التاريخ الفلسطيني والعربي المعاصر باعتباره يوماً للتضامن الأُممي منذ العام 1977، بقدر ما يحمل معه مفارقة حقيقيّةً، ففي مثل هذا اليوم من العام 1947 ارتكبت الجمعية العامة للأمم المتحدة جريمة كبرى بحقّ الشعب العربي الفلسطيني والأمّة العربيّة، حين اتّخذت قرارًا برقم 181 يقضي بتقسيم فلسطين خلافًا لقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وخصوصًا لمبدأ حقّ تقرير المصير.
لقد مرَّ المشروع الصهيوني بأربع مراحل أساسية: أوّلها – مرحلة التمهيد وقد استغرقت أكثر من نصف قرن منذ مؤتمر بال (بازل – سويسرا) العام 1897 الذي نظّر له تيودور هيرتزل عرّاب الحركة الصهونيّة في كتابه الموسوم “دولة اليهود” The Jwish State وتبِعه حصول الصهاينة على وعد بلفور 1917 من وزير خارجية بريطانيا بعد اتفاقيّة سايكس بيكو السرّية بين بريطانيا وفرنسا 1916 لتجزئة البلاد العربية؛ ومن ثمّ انعقاد مؤتمر سان ريمو واتّخاذه قرارًا بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني في 19 نيسان (إبريل) 1920، والذي وافق عليه مجلس العصبة في العام 1922 بحيث اكتسب صك الانتداب صفة الإلزام في القانون الدولي، وخلال هذه المرحلة كان المخطط الصهيوني يقوم على توسيع الهجرة واحتلال العمل والسوق والأرض.
وثانيها – مرحلة التأسيس بقيام دولة “إسرائيل” في 15 أيار (مايو) 1948، التي ركّزت وهي على تثبيت أركان الدولة العبرية وتعزيز علاقاتها مع المجتمع الدولي، ولا سيّما مع الولايات المتحدة الأميركية.
وثالثها – مرحلة التوسّع التي قامت على التمدّد والقضم والضمّ بوسائل مختلفة، وقد شاركت “إسرائيل” بالعدوان الثلاثي الإنغلو- فرنسي على مصر في العام 1956، وتُوّجت تلك المرحلة بعدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967، بحيث أصبحت “إسرائيل” باعتراف عالمي بؤرة العدوان ومشروع حرب مستمرّة، ولولا مساندة الولايات المتحدة والقوى الإمبرياليّة الكبرى، لكان المجتمع الدولي قد صنّفها بأنّها دولة مارقة وخارجة على القانون واتّخذ عقوبات بحقّها كما فعَلَ مع نظام جنوب أفريقيا العنصري.
ورابعها – مرحلة إجهاض المقاومة عبر اتفاقيات ومعاهدات لا ترتقي إلى معايير الحدِّ الأدنى من الحقوق الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرّف للشعب العربي الفلسطيني، مثل اتفاقية كامب ديفيد والصلح المنفرد (1978 – 1979) واتفاقيّة أوسلو (1991 – 1993) وصولاً إلى ما سُمّي بصفقة القرن بهدف إسدال الستار على القضية الفلسطينية وإغلاق ملفّها تماماً.
إنّ الاحتفال بهذا اليوم باستذكار الجريمة من جهة واستحضار فعل التضامن الأُممي من جهة أخرى، له أكثر من دلالة:
الأولى – إشعار المجتمع الدولي بمسؤوليّته لما حدثَ للشعب العربي الفلسطيني من مآسي وآلام بسبب احتلال أرضه وطرده من وطنه، فضلاً عن تعطيل التنمية والتقدم للشعوب العربية، ولا سيّما لدول المواجهة بسبب التهديدات والاحتلالات “الإسرائيلية” المتكرّرة أو التعكّز عليها لعسكرة المجتمع ومصادرة الحرّيات.
الثانية – أن التضامن الأممي جاء بنتائج إيجابية، منها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني وكذلك الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في دولة مستقلة (1974).
الثالثة – أن استقلال فلسطين الذي أعلن من الجزائر في المجلس الوطني الفلسطيني 1988 حظي بدعم المجتمع الدولي حيث اعترف بدولة فلسطين 141 دولة في العالم من مجموع 193 دولة، وزاد هذا الأمر انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة بصفة عضو مراقب وانضمامها إلى عشرات المنظمات الدولية، التابعة لها، بما فيها “المحكمة الجنائية الدولية”.
الرابعة – أنّ التضامن العالمي لا بدّ أن يرتكز على حدٍّ أدنى من التضامن العربي، وقد كان لمثل هذا التضامن الذي انطلق من مؤتمر الخرطوم العام 1967 (والمعروف بمؤتمر اللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوُض، لا اعتراف)، أثره الدولي في قطع علاقات أكثر من 30 دولة إفريقية مع “إسرائيل” وذلك بين العامين 1967 و1973، وكذلك في قطع العلاقات الدبلوماسية بين دول أوروبا الشرقية الاشتراكية المناصرة للحقوق العربية مع “إسرائيل”، باستثناء رومانيا، والأمر امتدّ إلى أوساط غربية عديدة أخذت تنظر بريبةٍ إلى “إسرائيل” باعتبارها بؤرة توتّرٍ واعتداءٍ على حقوق الفلسطينيّين معبّرةً عن تضامنها معها، وقد اتّخذ منحىً عمليًّا مؤخّراً بما فيها التضامن الأكاديمي والمقاطعة التي اتّخذتها جامعات بريطانية وأوروبيّة عديدة مؤخرًا.
الخامسة – أنّ التضامن العربي، ولا سيّما استخدام النفط كسلاح في المعركة خلال حرب أكتوبر العام 1973 كان وراء تعزيز التضامن الدولي، حيث اتّخذ المجتمع الدولي والأمم المتحدة قرارًا برقم 3379 القاضي باعتبار “الصهيونيّة شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، وذلك في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1975، والذي تم إلغاؤه لاحقاً في ديسمبر/كانون الأول 1991، بسبب تصدّع الحد الأدنى من التضامن العربي بعد احتلال قوات النظام السابق للكويت في العام 1990 واختلال موازين القوى على المستوى الدولي.
السادسة – الحماية الدولية، وذلك باعتبار القضيّة الفلسطينية قضيّة دولية، فلا بدّ والحال هذه من حماية الفلسطينيين دوليًّا وإنهاء الحصار المفروض على غزّة منذ العام 2007 ووقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات في الضفّة الغربية وإلغاء ما يتعلّق بصفقة القرن، وخصوصًا بإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف وتمكين الشعب العربي الفلسطيني، ولا سيّما فلسطينيّي الشتات البالغ عددهم نحو 9 ملايين من حقّ العودة وتعويضهم وفقًا للقرار 194 الصادر العام 1949 وذلك ضمن واجب أخلاقي وقانوني واستحقاق سياسي يقع على المجتمع الدولي، لإنهاء الاحتلال العنصري.
وفي هذا المجال وبهذه المناسبة، كان زميلي د. جورج جبّور المفكّر السوري وكاتب السطور قد دعيا إلى تنظيم اجتماع في العام 2022 في مقر الأمم المتحدة بدعوة من حكومات عربية ومنظمات دولية وحقوقية (بمناسبة مرور مئة عام على الانتداب البريطاني) لتأكيد بطلان صكّ الانتداب على فلسطين ومطالبة الأمم المتحدة (باعتبارها الهيئة الدولية الوريثة لعُصبة الأمم) تقديم اعتذار رسمي إلى الفلسطينيين والعرب، وتصحيح ما يترتّب على هذا الاعتذار قانونيًّا وسياسيًّا وما ينطوي عليه من استحقاقات مادية ومعنوية، مثلما طالبنا بالسابق تقديم بريطانيا اعتذار رسمي عن وعد بلفور وتحميلها مسؤولية تعويض الشعب العربي الفلسطيني عمّا لحقه من غبن وأضرار وعسف طيلة ما يزيد عن قرن من الزمان.
إنّ هذان المطلبان المشروعان والعادلان مستمرّان ومتواصلان وينبغي العمل لتأمين مستلزمات تحقّقهما بحشد جهود جميع القوى المناصرة لفلسطين عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا ورفدهما لحملة دولية على الصعيد الحقوقي والدبلوماسي والقانوني الحكومي وغير الحكومي، وذلك تساوقاً مع مقرّرات “مؤتمر ديربن – جنوب إفريقيا” حول العنصرية (2001) الذي دمغ الممارسات “الإسرائيلية” بالعنصرية والتميّز العنصري، وطالب المؤتمر الذي حضرته أكثر من 3 آلاف منظّمة مدنيّة الدول والحكومات التي تسبّبت في ممارساتها العنصرية الاعتذار إلى الشعوب بسبب ممارساتها التي ألحقت الأضرار النفسيّة والماديّة بها.
ولكي تتحقّق مثل تلك الآمال على الصعيد الدولي فلا بدّ من وحدة وطنيّة فلسطينية لجميع القوى والفصائل في إطار م.ت.ف وإعادة تركيبها وتشغيل هياكلها بحيث تكون مرجعيّة موحّدة وفاعلةً للشعب العربي الفلسطيني، وتعزيز المقاومة بجميع أشكالها المشروعة، بما فيها المدنيّة والسلميّة، لإسقاط قانون الدولة اليهودية النقيّة وكل مفردات صفقة القرن من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إلى الاعتراف الأمريكي “بإسرائيليّة” الجولان بزعم حكم “الأمر الواقع”، وصولاً إلى السُّكوت عن محاولات ضمّ غور الأردن وشمال البحر الميّت، والعمل على المستوى العربي ولو بحدِّه الأدنى لتوفير شبكة أمان ماليّ لدولة فلسطين بتوفير ظروف معاشيّة وحياتيّة كريمة للشعب العربي الفلسطيني تمكّنه من الاستمرار في صموده ونضاله ضدّ المشروع الصهيوني.
ويقتضي ذلك رفع درجة الدبلوماسيّة الفلسطينيّة والعربيّة في المحافل الدوليّة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، إضافةً إلى الاستفادة من الجاليات العربيّة والمُسلمة وكل أصدقاء فلسطين والمناصرين لقضيّتها، لخلَق لوبي في الغرب داعم للقضيّة الفلسطينية، فمعركة فلسطين هي معركة الحرّية في كل مكان وقضيّة الحرّية لا تتجزّأ ولا يمكن تقسيمها.
كلمة د.عبد الحسين شعبان
(في المهرجان الجماهيري في السويد)
الذي أقامته جمعية الشتات الفلسطيني (تجمّع عائدون)
29/11/2020