18 ديسمبر، 2024 6:51 م

قبل عامين، نشرت محطة MSNBC الأميركية في أحد برامجها خريطة تتعقب الفقدان المتواصل للأراضي الفلسطينية. والخريطة متداولة أصلاً؛ أربعة إطارات في كل منها خريطة للتقسيم الجغرافي لأرض فلسطين بين أهلها وبين المستعمرين، في الأعوام 1946، ثم حسب خطة تقسيم الأمم المتحدة 1947، ثم في الفترة ما بين 1949 و1967، وأخيراً في العام 2015. وكالعادة، أطلق نشر الخريطة حملة شرسة شنها أنصار الكيان، الذين طعنوا في صحة الخريطة، فاضطرت المحطة إلى الاعتذار وسحب الخريطة وادعاء أنها غير صحيحة. وفي المراجعة، أشار موقع MONDOWEISS إلى أن الأخطاء الوحيدة في الخريطة، هي أنها أشارت إلى النقط الصغيرة للمناطق التي ذات الأغلبية اليهودية في العام 1946 باسم “إسرائيل”، ولم يكن هناك شيء اسمه إسرائيل في العام 46؛ بالإضافة إلى اعتبار الجولان السوري جزءاً من فلسطين.
خريطة “فلسطين المتلاشية” موجودة في كل مكان على الشبكة الألكترونية، وتعرض بصرياً التقلص المريع للمساحة الفلسطينية، لتتحول من لون يغطي كل فلسطين التاريخية (باستثناء اللون الذي لا يكاد يُلحط للأماكن ذات الأغلبية اليهودية) حتى تصبح مساحة فلسطين أخيراً بضع نقاط صغيرة متباعدة مهملة على الخريطة، داخل الضفة الغربية وغزة. وما تقوله الخريطة مختزل في عنوانها القصير “فلسطين المتلاشية”، وإنما الذي يكثِّف تراكم النكبة الفلسطينية المستمر.
أتصور أن الذين يقومون اليوم بإحياء يوم الأرض الفلسطينية لا يفكرون في النقاط المتبقية على الخريطة التي يشار إليها وحدها بأنها “فلسطين”. إنهم يفكرون في كل المساحة التي “كانت تُسمى فلسطين” في العام 1946، والتي “صارت تُسمى فلسطين” أيضاً في العام 2017. وبالنسبة للفلسطينيين، يفكر من تبقى على قيد الحياة من مهجري 48 أولاً بأرضهم الصغيرة الخاصة التي هي حقلهم وبيوتهم، كشيء ولدوا ليجدوا أنفسهم يمتلكونه. ويفكر أبناؤهم وأحفادهم أيضاً بالرسم الطبوغرافي الموصوف بدقة في رواية الأب والجد للبيت والقرية. وبالنسبة لكل هؤلاء، يعني التعريف السائد الآن لفلسطين بأنها الإطار الرابع والأخير من خريطة “فلسطين المتلاشية”، إنكار العلاقة الحقيقية والقانونية والتاريخية والعاطفية بين هؤلاء وبين الجزء الصغير الأكثر حميمية من فلسطيناتهم: بيوتهم وحقولهم وقراهم الخاصة.
لكل الأسباب المعروفة، تغيرت آليات الصراع الفلسطيني من أجل الوطن، من الاشتباك من أجل استعادة البيت والحقل والأرض المستلبة، إلى مجرد الدفاع المستميت للحفاظ على ما تبقى منها. وهذه أسوأ حالة يمكن أن يختبرها شعب يناضل حتى يستبقي الأمل، ويقاتل بلا نصير. في كل يوم يرتقي الشهداء المتشبثون بما تبقى. وفي كل يوم تصادَر أرض أخرى ويُهدم بيت آخر ويقام حاجز جديد. ومع تآكل الأرض الحقيقية التي يقف عليها الفسطينيون الصامدون في الوطن، أو المحفوظة في وجدان المنفيين بملايين من قطع السرد الشخصي الذي يساوي الإيمان، يتم اغتيال المزيد من الأمل، ويُلقى بالمزيد من أصحاب فلسطين التاريخية إلى العراء الموحش.
من التفاصيل المشتركة في حياة الفلسطينيين في الشتات، أن واحدهم يعيش عمره وهو يحاول أن يجمع ثمن قطعة أرض يقيم عليها بيتاً يؤويه ويمكن أن يقول أنه يمتلكها. وبالنسبة لمعظم هؤلاء، كانت مسألة الأرض والبيت أمراً مفروغاً منه لو كان في الوطن. ولكن، لا يستطيع امتلاك قطعة أرض أو بيت أو شقة في أي مكان في العالم، أن تصنع شعور الفلسطيني بأنه حلّ مشلكته مع الأرض. ودائماً يكتشف أن الأمر ليست له علاقة بالعرَض، بأمتار مربعة يمكن أن يحيطها بسور ويقول “هذه أرضي وهذا سنَد مُلكيتي”. دائماً يحسُّ بأن “مُلكيته” غير طبيعية، مقطوعةٌ عن جوارها، غير متجانسة وُمصطنعة، وليست في مكانها. ودائماً لا يكون أكثر من ضيفٍ أطال الإقامة حيث لا يجب، وأكثر مما يجب.
عند الحديث عن فلسطين، الأرض والوطن والهوى الموروث في الجينات، يشعر الفلسطيني بأنه في وادٍ وكل الآخرين في واد آخر بعيد. فلسطين التي يفهمها ويحسها ليست فلسطين المختزلة التي بلا عاطفة، والتي يتعامل معها الآخرون كبند مزعج على أجندات المؤتمرات. وسيفكر أبناء حيفا وعكا واللد والرملة وصاحب كل بيت في فلسطين التاريخية بأنه مُهمل تماماً ومُلغى من الحساب، ومعنيٌّ وحده بالتفاوض اليومي المضني مع فكرة الأرض، والوجود المستهدف بالانتقاص مع “فلسطين المتلاشية” بلا هوادة، بلا اختيار، وبظلم وحشي!
نقلا عن الغد الاردنية