للحرب وجهها الاخر الذي يتقن الاختفاء خلف مشاهد الدمار . قد لا يكون اكثرها بشاعة لكنه اكثرها ايلاما. فبشاعة الحرب سرعان ما تظهر في صور الموت والدمار والحرق والنهب والسلب والصراخ والعويل. لكن هناك دائما وجه مخفي ربما هو الوجه الاكثر درامية وتراجيدية ماساة وملهاة في الوقت نفسه وهو الذي يشكل المادة الخصبة للمبدعين من شعراء وروائيين وكتاب قصة. لكن ان يتمكن مراسل حربي بدا حياته الصحفية احترافا مع بدء الحرب منتقلا اليها من الفن التشكيلي ليقتنص اكثر لحظاتها هروبا وعنادا وعصيانا ليحولها الى صور ناطقة وضاجة بالحياة فان هذا ما يمكن ان يؤسس لفن جديد يختزل القصة بكل مكوناتها الدرامية ولحظاتها التنويرية عبر لقطة واحدة ولكنها ذات ايحاء خاص.
هذا ما فعله فلاح الذهبي في كتابه “يوميات مراسل في بغداد” الصادر عن دار الحكمة في لندن مؤخرا. في هذا الكتاب يقدم فلاح الذهبي القادم الى الحرب مراسلا لقناة اميركية “الحرة عراق” من قاع مدينة الثورة متخطيا كل الحواجز والصعاب التي تفرضها الحرب بالضرورة ليصور لنا جانبها الانساني. ومع ان من الصعب وضع تقسيم اجناسي لما كتبه الذهبي في هذا الكتاب الصغير الا انني اتفق مع الصديق رعد كريم عزيز في مقدمته للكتاب حيث يقول انه يمكن “لنا ان نقول انها كتابة جديدة” واضيف انها تنهل من الشعر اكثر صوره ايحاء ومن القصة اكثر لحظاتها تنويرا ومن الرسم اكثر الوانه تعبيرية.
في حكاية اسمها “طفل” يسرد الذهبي لحظات خوفه الخاص من ان يكون هو هدفا لسيارة مفخخة. لكن طفلا يلهو في سيارة مجاورة جعل نفسه تطمئن ان الحياة اقوى من الموت برغم كونه حقا ام باطلا. يرصد الذهبي تلك الحالة قائلا “لم انتبه كثيرا الى هذا الامر ولكنني تذكرت رقمين احدهما كان ينتهي برقم ثمانية والاخر ثلاثة. ابتسمت رغم مخاوفي .. السؤال الاكثر الحاحا. ترى من من هؤلاء سيفجر نفسه .. من منهم انتحاري؟”. وبينما اوقف طفل السيارة المجاورة تداعيات الخوف في نفسه فان مشهد الفتى الذي كان يقبل فتاة في احدى زوايا عمارة كانت تحترق توا تعود لرجل اسمه “جبار الاعور” .يقول فلاح “صعدت السلالم سريعا كي اشاهد كل المشهد عند اخر السلم ووجهي نحو سطح العمارة.. ما شاهدته كان هو المفاجأة .. شاب مراهق يحتضن احدى الفتيات ويقبلها بشبق وهي مستسلمة.. فكرت انهما في لحظة لاتتكرر ” حيث وفر الانفجار لهما هذه الفرصة النادرة.
اللحظات الهاربة من فك الحرب المفترس كثيرة والتي يرصدها الذهبي. لكن منها ماهو اكثر بشاعة من الحرب نفسها. فمن الغزالية يرن جرس هاتفه. زميلة له من سكان المنطقة تبشره بعودة الحياة الى المدينة عام 2005حيث كانت تسمع اصوات شباب يلعبون المحيبس. لكن فرح هذه الزميلة لم يدم الا وقتا هاربا هو الاخر. فبعد اقل من ساعة اتصلت به باكية “هجم مسلحون على هؤلاء الفتية , فاسكتوا اصواتهم باطلاقات نارية وزعت على صدورهم”. وختاما اتفق مع ما كتبه رعد “لولا حرص الذهبي على عدم ضياع الطفل في داخله وعلى عدم ذهاب بريق الاحداث لما استطاع ان يدهشنا برؤيته الخاصة لحياة قلما نجد فيها فسحة للكتابة”.