لقد ولّد وصول إدارة جديدة إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة شعورًا في الشرق الأوسط بأن أمورًا كثيرة سوف تتغير. لكن هذه النظرة المتمحورة حول الولايات المتحدة يَفوتها أنّ تأثير واشنطن على المنطقة في الآونة الأخيرة حدث لأنها وقفت مكتوفة الأيدي، بدلًا من اتّخاذ خطوات محدّدة.
اضطُرّ الشرق الأوسط، على امتداد ولايتَي باراك أوباما وولاية دونالد ترامب، إلى التكيّف مع فك الارتباط الأميركي في المنطقة، ما ولّد ديناميكيات إقليمية جديدة طرحت علامات استفهام حول عدد كبير من الافتراضات التي كانت من المسلّمات قبل فترة. لذا سقطت أمورٌ عدّة كانت من الثوابت الأكيدة، ولعل في ذلك ما يُحرِّر بعض الشيء.
لنأخذ على سبيل المثال التطبيع الذي حصل العام الماضي بين دول عربية عدّة، هي الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب، وبين إسرائيل. تختلف الأسباب التي دفعت بكل دولة من هذه الدول العربية إلى اختيار هذا المسار، لكن هذه الاتفاقات مجتمعةً أسقطت فعليًا فكرة أن الصراع العربي-الإسرائيلي لا يزال قائمًا. فحتى البلدان التي لم تفتح قنوات رسمية مع إسرائيل، مثل السعودية وسلطنة عُمان، سبق أن فتحت معها قنوات على مختلف الأصعدة لكن من دون أن تضفي عليها طابعًا رسميًا. فماذا يعني هذا السياق الجديد للمنطقة الأوسع؟
مما لا شك فيه أن تخلّي العرب عن الفلسطينيين يثير الحسرة. ولكن هذه الخطوة قد تعود بالفائدة على الفلسطينيين من نواحٍ كثيرة، لأنها تُرغِم جيلًا جديدًا منهم على إعادة النظر في مقاربتهم لإسرائيل، بعيدًا عن المناورات العربية. كان حل الدولتين ليُنشئ، وفقًا لمنتقديه، بانتوستانًا فلسطينيًا، لا سلامًا قائمًا على التكافؤ والاحترام المتبادلَين. والآن لم يبقَ أمام الفلسطينيين في ظل غياب الدولة سوى تحصيل حقوقهم من الإسرائيليين في دولة ثنائية القومية.
ديمغرافيًا، قد يقود ذلك إلى أسوأ نتيجة ممكنة ليهود إسرائيل، ولكن القيادة الإسرائيلية جعلتها شبه محتومة. فإما أن تُبصر النور دولة ثنائية القومية أو سيكون على إسرائيل طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس أو الاستعداد لمواصلة قمعهم إلى الأبد. وفي الحالتَين، ستتداعى الأسس الفاضلة المزعومة للدولة اليهودية. لقد ألقت البلدان العربية، من خلال قرار التطبيع مع إسرائيل، هذه المشكلة الهائلة في أحضان الإسرائيليين الذين لا يملكون حلًا سحريًا لها.
ولكن تمامًا مثلما أُعيد تعريف الصراع العربي-الإسرائيلي بحيث لم يعد قائمًا، تبدّل أيضًا تعريف مفهوم المقاومة، لا بل أيضًا تعريف مجموعة الدول والجهات التي تسمّي نفسها محور المقاومة، أي إيران وحلفائها الإقليميين، وعلى رأسهم حزب الله والنظام السوري وحركة حماس. وإذا قاوم الفلسطينيون في المستقبل، فسيفعلون ذلك سعيًا وراء أهداف قابلة للتحقيق، مثل المساواة في الحقوق في دولةٍ يعيشون فيها مع اليهود، بدلًا من المطالبة بدولة فلسطينية مستقلة. إذًا، لن تكون طبيعة مقاومتهم من النوع الذي يفضّله محور المقاومة، أي المقاومة المسلّحة، بل ستكون مقاومة غير عنفية. ومن أجل تحقيق ذلك، ينبغي على الفلسطينيين الاتفاق على استراتيجية مشتركة. ولكنهم بدأوا يعيدون النظر في المعنى الفعلي للمقاومة.
محور المقاومة حاليًا عبارة عن تحالف مبنيّ على الرمال. ففي كل أرجاء المنطقة، يعمل الشركاء المنتمون إلى هذا المحور في ظروفٍ تَحدّ من قدرتهم على محاربة إسرائيل أو أميركا: فسورية مدمّرة؛ ويتربّع حزب الله فوق لبنان المنهار اقتصاديًا، حيث يبلغ العداء للحزب وأجندته مستويات كبرى؛ ويرفض عدد متزايد من الشباب، وكذلك شخصيات حكومية ودينية رفيعة، المنظومة الفاسدة التي تسيطر عليها إيران وتعاني خللًا وظيفيًا في العراق؛ ويرأس الحوثيون في اليمن بلادًا مفكّكة ومنكوبة؛ وتسيطر حماس على قطاع غزة الذي هو أشبه بسجن كبير، مَنفَذه العملي الوحيد هو باتجاه مصر التي يتعامل نظامها بارتياب شديد مع الحركة.
بعبارة أخرى، يُعدّ الانتماء إلى محور المقاومة مرادِفًا للخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويصمد هذا التحالف المنكوب فقط لأن إيران وحلفاءها على استعداد للجوء إلى العنف من أجل الحفاظ عليه. وهذا يؤكّد أن الحديث عن محور مقاومة يحارب الظلم لا أساس له، لأن اعتماد الأساليب نفسها التي تلجأ إليها الجهات الظالمة والقمعية هو النفاق بعينه.
الافتراض الثالث الذي تغيّر هو الاعتقاد بأن إيران تمتلك حقًا مشروعًا في ممارسة نفوذها في العالم العربي. فحتى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بدا وكأنه يصدّق ذلك، انطلاقًا مما قاله لجيفري غولدبرغ من مجلة “ذي أتلانتيك” في العام 2016: “المنافسة بين السعوديين والإيرانيين، التي ساهمت في تغذية الفوضى والحروب التي تُشَنّ بالوكالة في سورية والعراق واليمن، تتطلب منا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، إن عليهم التوصل إلى طريقة فعّالة لتشارُك المنطقة وإرساء نوع من السلام البارد”.
مع تسلّم بايدن الذي كان نائبًا للرئيس أوباما سُدة الرئاسة، يجب إعادة النظر جوهريًا في ذلك الافتراض. فعلى أي أساس يُعتبر هذا الاعتقاد صحيحًا، ولا سيما أن إيران لا تُقدّم نموذجًا مقبولًا للعرب؟ لا بل إن وعودها الإقليمية تكاد تكون أورويلية في تداعياتها، إذا كانت المقاومة مرادفًا للخراب، والتحرير مرادفًا للقمع.
لقد استغلّت إيران الانقسامات في الدول العربية التي تغلغلت فيها. وعمدت الدول الحليفة لها إلى تقويض مؤسساتها الوطنية من أجل توسيع نفوذ طهران، ما ساهم في تفكّكها. لدى إيران الكثير لتقدّمه على المستوى الثقافي، ولكن لا وجود للقوة الناعمة في قاموسها في الوقت الراهن. فعلى الرغم من كل ما تتبجّح به من براعة وصبر بوصفها أمّةً من حائكي السجاد، لم تُقدّم للعرب سوى فصول قاتمة من الاستشهاد والنزاعات والفقر والتضحية المستمرة، فضلًا عن الانتقام الشديد من كل مَن يتحدّى القوى السياسية التي تدعمها.
لكن عيوب طهران لا تنعكس بالضرورة إيجابيًا على الدول العربية. ففيما تستعد حكومات كثيرة في المنطقة لحقبة ما بعد ترامب، ليس لديها هي أيضًا ما تقترحه. فالعالم العربي يخلو من الأفكار الكبرى، وهو على هذه الحال منذ عقود. صحيحٌ أن الانتفاضات التي انطلقت في العام 2011 أطاحت بأنظمة سلطوية، لكن قادة جميع الدول العربية تقريبًا عمدوا، منذ ذلك الحين، إلى خنق التطلعات الديمقراطية. ويبدو أن محرّك العمل الأساسي في الوقت الراهن يتمثّل في السعي إلى تحقيق المصلحة الوطنية، وعادةً ما يتم من خلال تعزيز النفوذ، من دون التوقّف عند ما حدث قبل عقد من الزمن. وتُعتبر محاولة بناء منظومة إقليمية فعّالة بمعيّة القيادات العربية الحالية حماقة، تمامًا مثل توقُّع أن تقوم إيران بمثل هذه المحاولة.
إذا لم يعد الصراع العربي-الإسرائيلي قائمًا، وإذا لم تعد المقاومة تعني الكثير، وإذا كانت الدول العربية وخصومها الإيرانيون لا يُقدّمون نماذج حكم ذات صدقية للمستقبل، فهذا يعني أن المنطقة قد أينعت وحان وقت إعادة تشكيلها على نحوٍ جذري. لا تستطيع الإدارة الجديدة في واشنطن المساعدة في هذا الصدد، بسبب تورّط الولايات المتحدة إلى حد كبير في المنظومة القديمة التي ولّدت الركود والسخط. قد تستفيد دول الشرق الأوسط من إسقاط المسلّمات السابقة، لكن امتحانها الأكبر سيكون إثبات أنها قادرة على المضي قدمًا.