17 نوفمبر، 2024 7:49 م
Search
Close this search box.

فقرنا الرقمي

مما يؤسفُ له أشد الأسف أن معظم شبابنا العربي لم يسمع بهذه البرامج التعليمية الثرية ولم يوظفها في صناعة مستقبله وتحديد أهدافه، وفي ذلك هدرٌ لموارد مادية متاحة.

تعدُّ بيئتنا العربية واحدة من أكثر البيئات استخداما وتوظيفاً للتقنيات الرقمية على مستوى العالم بأجمعه، ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة من الهوس الطاغي لدى معظم أبناء هذه البيئة (وبخاصة فئة الشباب منهم) لتحديث أجهزتهم الإلكترونية بين حين وحين؛ غير أن هذا الهوس لا يعد مقياساً على مديات الارتقاء العلمي حتى على صعيد الجوانب التقنية الرقمية ذاتها، وهو ليس سوى واحدٍ من أعراض الهوس الجمعي، هوس التملّك الشره والاستهلاك الذي يطال معظم جوانب حياتنا دون الاستفادة الحقيقية من التقنية الرقمية في المفاصل الحيوية لحياتنا المعاصرة بخاصة في ميدان التعليم (الثانوي والجامعي على وجه التحديد).

أصبحت البرامج التعليمية الرقمية المجانية في السنوات الأخيرة معْلَماً أساسياً من معالم التعليم في عصرنا الحديث، فثمة برامج مهمة أذكر منها برنامجين مميزين هما الأكثر فرادة بين برامج التعليم الرقمي من حيث مفردات البرامج والمنصات التفاعلية والجهات الأكاديمية التي تدير هذه البرامج: البرنامج الأول هو (Edx) الذي يديره معهد ماساتشوستس التقني (MIT) وجامعة هارفارد.

أما البرنامج الثاني فهو Coursera)) الذي تديره جامعة ستانفورد إلى جانب جامعات عالمية مشهود لها بالرصانة العلمية وبين حين وآخر تُنشر تقارير إحصائية لبيان أعداد المستفيدين من هذه البرامج التعليمية، ويُلاحظ أن الصينيين والهنود وبعض أبناء جنوب شرق آسيا يأتون في طليعة المستفيدين من هذه البرامج الدراسية وبخاصة في موضوعات الرياضيات والفيزياء والبرمجة الحاسوبية ولغات البرمجة وتعلّم اللغات الأجنبية (وبخاصة الإنكليزية)؛ الأمر الذي يكشف أن هؤلاء يعدّون العدّة منذ وقت مبكر في حياتهم لترسيم صورة المستقبل الذي يريدونه لأنفسهم وبخطوات محسوبة بدقة ووعي.

وفي العادة يرى هؤلاء في تلك البرامج الدراسية كنزاً ثميناً تنبغي الاستفادة منه إلى أبعد الحدود الممكنة، وليس غريباً أن نقرأ بصورة دورية عن شباب آسيويين يافعين في حدود العاشرة من أعمارهم -أو أكثر بقليل- وقد أكملوا برامج دراسية علمية وتقنية تكفي للحصول على درجة البكالوريوس بتفوق (وربما حتى الماجستير في أحيان أخرى)، وقد حصل الكثيرون من هؤلاء على منحٍ دراسية في الجامعات ذاتها التي تدير هذه البرامج الدراسية.

ومما يؤسفُ له أشد الأسف أن معظم شبابنا العربي لم يسمع بهذه البرامج التعليمية الثرية ولم يوظفها في صناعة مستقبله وتحديد أهدافه، وفي ذلك هدرٌ لموارد مادية متاحة إضافة إلى خسارة زمن مهم إذا ما علمنا أن نظمنا التعليمية العربية قد تهالكت وتخلفت كثيراً بالقياس إلى خمسينات وستينات القرن العشرين، ولا بد من وسائل استثنائية وغير تقليدية لتجاوز هذا التخلف والتردي الذي لحق بها.

من جانب آخر لا بد من الإشارة أننا نعيش اليوم وسط بيئة صارت محكومة -بالضرورة- بهيمنة الوسائط الرقمية الشائعة، ومعروف أيضاً أن تلك الوسائط محكومة هي الأخرى بقيود النظم الرقمية التي تعمل وفق خوارزميات محددة، وقد أدى هذا الأمر إلى خفوت القدرات التحليلية والفلسفية (لدى المهووسين بالتطبيقات التفاعلية ذات الطبيعة الإجرائية غير التعليمية مثل الألعاب الحاسوبية) والاستعاضة عنها بنوع من القدرة الخوارزمية الأقرب إلى متطلبات التنميط الجمعي التي تستخدم للارتقاء بمنظومات الذكاء الاصطناعي، ونعلم أن خفوت الشغف التحليلي والفلسفي في مجتمع ما ينطوي على مخاطر عدة أهمها سيادة الخبرات الحاسوبية الجاهزة، وتشكل هذه الإشكالية الخطيرة في ثقافتنا معضلة باهظة الأثمان إذا لم نتحسب لمخاطرها قبل فوات الأوان.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات