15 نوفمبر، 2024 11:34 ص
Search
Close this search box.

فـى رحاب الامام الخوئي

فـى رحاب الامام الخوئي

كنت يومها في بداية العشرينيات من عمري طالباً في جامعة الكوفة في النجف، عندما رأيت الامام الخؤئي لأول مرة ولم أكن اعرف البتة من يكون الخوئي الا بعد أيام حدثني كربلائي في سنيَ اسمه عليَ وكان هو ايضاً طالب جامعي حاله حالي لكنه تحدث عنه بقدسية لانظير لها، فزاد فضولي كي أعرف اكثر عن هذه الشخصية .
كطالب جامعي يدرس في ولاية بعيدة عن موطنه ومختلفة تراثا وفكرا وعادات وتقاليد فكرت بما يملأ العباءة وما تحت العمامة السوداء للخوئي أول شيء، بالتأكيد في وقته لم أكن أفرَق بين من يعلو هامته عمامة سوداء أو بيضاء، كل ما كنت اعرفه انها حلية رجل دين يقف امامنا ليصلي بنا الجماعة في احدى الحسينيات المنتشرة في النجف الاشرف وما حولها.
توالت الايام وما ان رأيت الخوئي حتى حفظت اسمه في عقلييً الباطن والظاهر، فهو اسم لمدينة في اقصى الشمال الايراني كانت تحتضن مئات العوائل الكوردية التي تركت الوطن في مرحلة ما بعد نكسة الـ1975، كما حفظت تقاسيم وجهه فكان ذا انف مدور محودب ووجه ممتليء بالشعر الابيض الكث فيه شيء من الوقار يمتلك هيبةً قلما شاهدتها في نظير له.
أبو القاسم الخوئي ( 1899 – 1992 ) كان يزور عتبة الامام عليَ في الولاية بين الفينة والاخرى، واكثر ما كان يحضر يكون ما قبل الغروب، الناس تقبل عليه من كلَ صوب والكل ما عدى قليلون وانا منهم يقبلون اكتافه ويديه تذرعاً للبركة وهذا المشهد شدَني اليه اكثر، يا له من سعيد الحظ أن يكون محباً لهذه الدرجة من قبل أناس اكثرهم من الفقراء والمعوزين والكسبة والبقالون والعاملون في السوق، ربما لم يكونوا كذلك لكن ملبسهم وهندامهم يوحي بأنهم من هذه الطبقات الفقيرة.
من مشاهداتي المستمرة للخوئي هو أن الرجل وعقب اذان المغرب يصلي بالناس في باحة العتبة عندما يكون الوقت صيفاً او ربيعاً حتى وأن كان خريفاً فالجو في هذه الفصول يكون صافياً لامطر ولابرد يقسو على الناس، بعدها يطوف بمرقد ابي الحسين ويغادر على حين غرِة بسيارته الروزرايز السوداء الطويلة ذات المقاعد الستة وهو يودع الواقفين على جانبي الطريق من نافذة السيارة الى ان تعلوا زجاجة النافذة وهو ينظر اليهم نظرة الوالد لأولاده.
كان من عادات ابو القاسم تقديم محاضرة شهرية لطلبة الكلية الاسلامية بفروعها الثلاث الفقه والاصول واللغة العربية مجمعين في قاعة كبيرة كانت تتغيير بتغير الشهور حيث كنت طالبا هناك، وفي أولى المحاضرات نكت السيد على الشعب الكوردي بعدما سمع احد الطلبة من السليمانية لا أتذكر سوى أن أسمه مهدي بلكنته الطاغية على عربيته المكسورة واستبدال حرف الذال بالزاء فقال: عندما تسمع الشخص تعرف من يكون، فأخوكم كوردي من الشمال، وبعد ضحكة بريئة قال: العرب يسمون الصلاة صلاة باللام المشددة والاكراد يلفظونها باللام الاعجمية الرخيمة المخففة ثم أردف: الاكراد نيتهم صافية وهم قريبون من الباري عزوجل، في ذلك اليوم سررت بما قاله السيد لكن بعد ان طالت اعمارنا وزادت تجاربنا كنت اود ان اقول للسيد: الكورد دوماً سذج ونياتهم لاتشوبها شائبة وهي ذاتها مصدر تعاستهم لكن الفرص لاتتكرر دوماً لاسيما حضور مجلس الخوئي.
في تلك الايام الخوالي كانت رؤية كبير المرجعية أمراً سهلاً ليس كما نسمع اليوم بتحجبه عن العامة، وانا الشاب العادي رأيته بمناسبة ودون مناسبة عشرين مرة او اكثر، سنحت لي الفرصة لسماعه وحضور جلساته لاكثر من مرة، رأيته في العتبة النجفية الشريفة غير ذي مرة وهو الشيخ الوقور المهيب المتواضع، شهدته داخل مرقد الامام علي وعلى بوابة العتبة وحتى في الشارع وأذكر انني صليت وراءه ذات مرِة، رحم الله تلك الايام التي لم تبرح مخيلتي رجعت معها زهاء الثلاثة العقود من الزمن.
في هذه الايام وحيث كثر ألائمة والمراجع والاولياء وما يدلون به، تذكرت تلك الحادثة وتذكرت بساطة الخوئي ووقاره وكأي انساناَ عادياَ ذي خبرة وعلم، وليس كما مراجع اليوم الذين كثروا بعدد ايام السنة، وتصور البسطاء أنهم ذو مراتب ألوهية وأحيانا أكثر من ذلك.
*كاتب وصحفي ومترجم باللغتين العربية والكوردية

أحدث المقالات

أحدث المقالات