23 ديسمبر، 2024 7:04 ص

فضيلة الجلاد ورذيلة الضحية

فضيلة الجلاد ورذيلة الضحية

منذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط النظام السابق ، وما تمخض عنها من أهوال سياسية ، وترتب عليها من بلايا اجتماعية ، وانبعث خلالها من كوارث حضارية ، وصيغة عنوان هذا الموضوع تتقاذفها موجات مدّ الرغبة وجزر الرهبة ، وتهيمن عليها نوازع الإقدام تارة ودوافع الإحجام تارة أخرى . خشية الاتهام بموالاة هذه الجهة على حساب معاداة تلك ، وتلميع صورة هذا الطرف على حساب تشنيع سمعة ذاك ، من حيث توقع كونها ستصدم الذهنية التقليدية لدى الخاصة ، وتستفز السيكولوجيا الاجتماعية المجيشة لدى العامة . سيما وان الأجواء كانت ملبدة بعوامل الهياج والاحتدام ، والنفوس كانت مشحونة بمشاعر الغضب والانتقام من جهة ، وان ترتيب المفاضلة بين خبث الجلاد وبراءة الضحية ، كان قد استقر في أدبيات الفكر السياسي منذ فلاسفة الإغريق الأوائل (أفلاطون وأرسطو) ولحد الآن ، لجهة إن جذر الشرّ كامن في ماهية الأول وأن مصدر الخير رابض في كينونة الثاني ، وليس هناك مجال لاحتمال قلب أطراف المعادلة أو تغيير اتجاهات الأقطاب فيها من جهة أخرى . فالجلاد كان ولا زال على باطل دائما”، مهما اجترح من مواقف وسياسات تحسب له ، وان الضحية كانت وما برحت على حق بالمطلق مهما تمخضت عنها من تصرفات وسلوكيات تسجل ضدها . واليوم وبعد أن توضحت الصور وتجلت الحقائق وتبلورت المعالم وتمظهرت الملامح ، بات من الضرورة بمكان وضع النقاط على الحروف وكشف الغطاء عن الممنوعات ، لإعطاء كل ذي حق حقه ، لا وفقا”للرغبات والمزاجيات ، إنما بناء على الأدوار التي قام بها والوظائف التي مارسها كل من موقع مسؤوليته وعرين سلطته . لا ريب في أن المسألة المطروحة هنا تبدو حمالة أوجه بامتياز ، من حيث كونها تحيل إلى الجوانب الأخلاقية والاعتبارية ، التي تحدد طبيعة العلاقة بين الناس بصفتهم عناصر اجتماعية ، تتمتع بخيارات مصلحية / ذاتية ، وتخضع لاشتراطات تاريخية / موضوعية ، وبالتالي فان المعايير التي تحكمها والمقاييس التي تؤطرها ، هي من النمط الذي يتسم بالمرونة المعيارية والنسبية التاريخية . بمعنى أنها لا تعمل بمعزل عن ظروف البيئة التي أنتجتها وغذتها من جهة ، ولا تمارس فاعليتها خلافا”لإرادة متعاطيها وخياراتهم من جهة أخرى ، فهي تتلون بألوان الواقع وتتشكل بإرهاصات المجتمع . وتمشيا”مع ذلك ، فهل يمكن في منظور العرف العام توقع أن يبدي الجلاد (فضيلة) ما حيال ضحيته ، أو قد تند عن الضحية (رذيلة) معينة تحفز وحشية جلادها ؟ . بمعنى مغاير هل يجوز تصور أن ترشح عن الضحية رذيلة بالمعنى الإنساني ، بحيث تستحق ما آلت إليه على يد جلادها من قمع أو ردع ؟ . في الواقع إن تناول المسألة من منظور الوعي الأخلاقي المجرد ، قمين بخلق إشكاليات عديدة ومعقدة ليس هنا مجال طرحها ومناقشتها ، بيد أن مقاربتها من وجهة نظر الواقع المجسّد ، مرجح لها أن تتيح للباحث المعني مسالك عديدة وسبل متنوعة ، تمكنه من صياغة بعض الآراء واستخلاص بعض الطروحات ، التي من خلالها يلج حقل الموضوع ويجوس في أبعاده ، ومن ثم يدلو بدلوه فيها وحولها ، دون أن يخشى الوقوع في مطب التحيز ومنزلق التذويت ، اللذان كانا – في غالب الأحيان – المآل الذي تنتهي عنده وتتخندق فيه مثل هذه المواضيع الحساسة . والحال إذا كانت القضايا التي من هذا القبيل ، تتسم بخواص التباين في التصنيف المعياري والاختلاف في التوصيف القيمي ، استنادا”إلى طبيعة البنية الاجتماعية التي تتشكل في رحمها ، ونموذج الكيان الحضاري الذي تتبلور في سياقه ، ونمط النظام الثقافي الذي تنطبع بسماته ، ودرجة نضوج الوعي الفردي الذي تدرك من خلاله . فما هي ، إذن ، يا ترى المعطيات أو الوقائع التي من شأنها تسويغ مثل هذه المجانسة فيما بين الأضداد ، وتبيح التضايف فيما بين المتعارضات ، سواء أكان على صعيد الأسماء أو الصفات ، بحيث نسبغ على (الجلاد) قيم ايجابية تقلب تواضعاتنا القديمة عن وحشية سلوكه وكلبية قيمه رأسا”على عقب من جهة ، ونضفي ، من جهة أخرى ، على (الضحية) قيم سلبية تلزمنا بالتخلي عن قناعاتنا التقليدية السابقة بخصوص مظلوميته وقلة حيلته ؟؟! . فبحسب التصورات الشائعة والمألوفة عادة ما تقترن صفات مثل (الطاغية) أو (المستبد) أو (الدكتاتور) أو (الجلاد) بمن هو صاحب الأمر – سواء أكان ربّ أسرة أو مدير مؤسسة –  أو الحائز على السلطان – سواء أكان شيخ قبيلة أو زعيم دولة – مثلما إن صفات مثل (الشعب) أو (الرعية) أو (الجماهير) أو (الضحية) تشير إلى من يقع عليه فعل الأمر- سواء أكان فرد أو جماعة – أو يتعرض لتأثير السلطان – سواء أكان بمدلوله الواقعي أو الرمزي – وهو الأمر الذي تترتب عليه مجموعة من الالتزامات والمسؤوليات بالنسبة للأول ، والحقوق والواجبات بالنسبة للثاني ، بحيث إن أخلّ أي منهما بما هو مكلف به وقائم عليه ، تعرضت المصالح التي تؤطر مواقفهما إلى الخلل ، وأصيبت العلاقات التي تؤشر تواصلهما إلى الزلل ، ومن ثم تحصل القطيعة التي ينتفي من خلالها هامش التفاهم بين الجانبين ، وبقع المحظور الذي ينفرط بموجبه عقد التوافق بين الطرفين . والحال هل ثمة شيء من المعقولية حيال زعمنا الرامي إلى إن لرئيس النظام السابق (صدام حسين) بعض من (الفضائل) ، التي يمكن تنسب إليه وتحتسب له ، بعد كل تلك النعوت السلبية التي أطلقت ضده والأوصاف المحقرة التي أسبغت عليه ؟! . وهل ثمة شيء من الإنصاف إزاء ادعائنا المتضمن إن لجميع قوى المعارضة بكل أطيافها وتلاوينها ، التي تزعمت النظام السياسي الجديد ، نوع من (الرذائل) التي يمكن أن تساق ضدها وتجيّر باسمها ، بعد كل تلك الضروب من المعاناة الإنسانية والمظلومية التاريخية ؟! . الواقع إن ظاهرة إطلاق النعوت على زيد من الناس ، سواء أكان زعيم دولة أو رئيس حكومة أو قائد حزب ، لا تبرر بالمطلق تقييمه على أساس ما تحمل تلك النعوت من دلالات سلبية أو ايجابية . مثلما إن الأوصاف التي تشاع عن عمر من الناس ، سواء أكانت قوى معارضة أو تيارات مناهضة أو أطراف مناوئة ، لا تسوغ بالمرة التعاطي معها من خلال ما تشي به تلك الأوصاف من وقائع حقيقية أم كاذبة ، أو تفصح عنه من مواقف مشروعة أم باطلة . إنما المعيار في ذلك هي جملة الأحداث الفعلية والمعطيات الواقعية ، التي تتصل بالقضايا السياسية والأوضاع الاجتماعية والأمور الاقتصادية والمسائل الثقافية ، لاسيما وان كل الأنشطة والفعاليات التي تتمخض عن فعل الإنسان في التاريخ وانخراطه في المجتمع ، ممهورة بطابع النسبية التاريخية وموشومة بختم الأواليات الجدلية . وبالتالي فان ما يقع في خانة الأشرار لدى هذه الجماعة ، قد يكون ضمن خانة الأخيار لدى جماعة أخرى مغايرة وبالعكس . لا بل يمكن أن تكون ذات الجماعة الواحدة قد غيرت نظرتها وبدلت موقفها من النقيض إلى النقيض ، حيال نفس الشخص أو الجماعة أو المؤسسة أو النظام ، تحت وطأة ظهور حقائق جديدة وتبلور حيثيات مستجدة ، استلزمت أن يصار إلى تبرير هذا الانزياح وتسويغ تلك الانتقالة . ولعل المثال الأقرب والنموذج والأوضح على مثل هذا التحول النوعي والانقلاب الجذري ، ما بات يحصل لمعظم العراقيين إزاء موقفهم من شخصية الرئيس المخلوع (صدام حسين) ونظامه السياسي السابق ، على خلفية تراكم صراعاتهم السياسية ، وتفاقم انهياراتهم الأمنية ، وتعاظم تصدعاتهم الاجتماعية ، واستفحال معاناتهم الاقتصادية . ففي حين كانت الغالبية العظمى منهم قبل السقوط ، لا تصنف فقط  (صدام حسين) ضمن خانة أعتى الطغاة والمستبدين في العالم ، وان نظامه كان يمثل أقسى النظم الدكتاتورية والشمولية التي شهدها التاريخ فحسب ، بل وكذلك إن العراق الذي طالما أصابه ما أصابه جراء السياسات الدونكيشوتية ، التي جلبت له الدمار والخراب ولشعبه المآسي والمظالم ، لن تقوم له قائمة إلاّ عبر إزاحة نظامه بالقوة وإزالة سلطته بالعنف واجتثاث تعسفه بالإكراه . انقلبت إلى نوع من الحنين للأيام الماضية ، التي كان الناس فيها ينعمون بعوامل الأمن وان كانت مشروطة ، ويتمتعون بمقومات الطمأنينة وان كانت نسبية ، بصرف النظر عن قوميتهم أو جنسهم أو دينهم أو مذهبهم أو قبيلتهم أو عشيرتهم . كما ويتحسرون على مظاهر المؤسسية وان كانت مشخصنة ، وسيادة النظام وان كانت مركزية ، وهيبة الدولة وان كانت شمولية . هذا في حين إن الموقف من رموز النظام الجديد (الضحية سابقا”) بات يتسم بالازدراء والاحتقار من لدن الجميع ، بعد ما كان محاطا”بهالات التقدير الأبله والتبجيل الساذج ، على خلفية التعلل بجرائم الابادة الجماعية ضد البعض ، والتعكز بالمظلومية التاريخية التي لحقت بالبعض الآخر . وذلك بعد أن أزيحت الأقنعة عن ضواري الاتجار بمصير العراق وشعبه ، وتعرّت النوايا المنطوية على غرائز القتل والتدمير ، وتكشفت السرائر الموبوءة بالحقد والكراهية ، وأميط اللثام عن الغايات المتجلببة بمظاهر السمو والرفعة ، لإخفاء حقيقتها المنقوعة بالانحطاط والضعّة . ولكي لا نطنب كثيرا”ويغدو حديثنا أشبه بالمرافعة ضد و / أو مع هذا الجانب أو ذاك ، فانه من الموضوعية الاعتراف بأن للرئيس السابق (الجلاد) مساوئ كثيرة وعيوب متعددة ، لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكارها أو التغطية عليها ، سواء تبلورت على صعيد تغول الدولة وتوحش السلطة وشيطنة النظام . مثلما لا يمكن أن نتجاهل ان لأصحاب السلطة الجديدة (الضحايا سابقا”) حقوق أهدرت وكرامات أهينت ومصالح أقصيت ، إلا إن ذلك كله لا ينبغي أن يقف حائلا”دون الإشارة إلى ما اقترفته عناصر هذه السلطة من رزايا ، ليس فقط على مستوى الوطن حين حولته إلى كانتونات ، والدولة حين جزأتها إلى محاصصات ، والحكومة حين صيرتها إلى مليشيات ، والسلطة حين قسمتها إلى محسوبيات فحسب ، وإنما على صعيد المجتمع حين ساقته إلى الصراعات ، والتاريخ حين مسخته إلى أسطوريات ، والجغرافيا حين فرضت عليها التشظيات ، والهوية حين أعادتها إلى الأصوليات ، والثقافة حين بعثت فيها الخرافات . أفليس من الأفضل للعراق والعراقيين ، بعد كل هذه الأهوال التي عاشوا ويعيشوا معاناتها يوميا”، أن تكون الدولة التي يستظلون بظلها مركزية ولكنها وطنية ، بدلا”من أن تكون ممزقة وتابعة ؟ وأليس من الأفضل للعراق والعراقيين أن تكون السلطة التي ينضوون تحت لوائها قوية ولكنها مهابة ، بدلا”من أن تكون ضعيفة ومنتهكة ؟ وأليس من الأفضل للعراق والعراقيين أن تكون لهم هوية واحدة ولكنها عراقية ، بدلا”من تكون لهم هويات فرعية متناحرة يستأصل بعضها البعض الآخر ؟ وأليس من الأفضل للعراق والعراقيين أن يعيشوا في كنف مجتمع مراقب ولكنه موحد ، بدلا”من إن يتلظوا بجحيم صراعات الأقوام والطوائف والقبائل ، التي ما انفك بعضها يتربص بالبعض الآخر لاقصاءه إن لم يكن لابادته ؟ وأليس من الأفضل للعراق والعراقيين التعاطي مع إيديولوجية احتوائية ولكنها علمانية ، بدلا”من أن تفرض عليهم السفسطات الطائفية والهوامات العنصرية ؟ ، للحدّ الذي بات الكل – ويا للمفارقة – يترحم على أيام صدام ، برغم المعاناة التي تسببت بها والفضاعات التي نتجت عنها ، بعد أن يأسوا من إمكانية العيش في ظل دولة عقلانية تحترم القوانين بدلا”من إباحة الفوضى ، وحكومة ديمقراطية تبجل المواطنين بدلا”من أن تنتهك حقوقهم !! .