22 ديسمبر، 2024 2:16 م

فضيحة الفرزدق التي تلاحقه عبر الأزمنة

فضيحة الفرزدق التي تلاحقه عبر الأزمنة

في العصر الحديث، نجوم المجتمع الناس تتابع أخبارهم عن كثب، ويتلقفونها، وتلاحقهم الفضائح التي تستمر أخبارها لردح من الزمان. لكن بمرور الوقت وتعاقب الأزمنة، تطوي صفحات التاريخ الفضائح ولا يبقى منها إلا أطلال، سرعان ما تزول فور سماعها.
وفي العصور الغابرة، كان نجوم المجتمع هم الشعراء، الذين بأشعارهم يمدحون، ويهجون، ويطربون المجتمع بأحلى قصائد العشق، وإن كان أيضًا بمقدورهم إشعال الحروب وإنزال هزائم نفسية بالأعداء من خلال كلماتهم البليغة. وبما أنهم من نجوم المجتمع البارزين، كان يشتم الناس فضائحهم، ويتناقلونها، كما يحدث تمامًا في العصر الحديث. ويذكر التاريخ، أن من أطول الفضائح التي خلَّدها التاريخ على مدار أربعة عشر قرنًا، فضيحة الشاعر الفرزدق عندما ملأت قلبه الأنانية، وأراد استعباد فردِ حرّ، فصار أسيرًا لبقية حياته لعبودية من نوع آخر تجهز على سيرته وبلاغته.
والفرزدق (38-110 هجريًا) هو همام بن غالب بن صعصعة الدارمي التميمي، وأحد فحول الشعراء الذين زانت أشعارهم العصر الأموي، ويعده المؤرخون أحد شعراء الطبقة الأولى؛ حيث وضعوه في مرتبة شاعر الجاهلية زهير بن أبي سلمى. واختلف المؤرخون على مكان مولده؛ فقال البعض في اليمامة، في حين ذكر آخرون في الكاظمة (الكويت حاليًا). والفرزدق سليل قبيلة “دارم” أحد أفخاذ قبيلة “تميم” المعروفة بالكرم والنسب العريق. وكان جده ذو سمعة طيبة ووالده غالب عرف بكرمه وحسن ضيافته، وأنه يجير من استجار. ولقد سمي الفرزدق لضخامة وتجهم وجهه، ويعني الاسم “رغيف الخبز الضخم”، ومفرده فرزدقة.
ولقد احترف الفرزدق الشعر في سن الخامسة عشرة، وعلا شأنه. ويذ المؤرخون أن صرح الشعر العربي في العصر الأموي أقيم وفقًا لجهود أشعر شعراء ذاك العصر، وهم الفرزدق وجرير والأخطل. وبالنسبة للفرزدق، فلقد أتقن جميع فنون الشعر، ونظم جميع ألوانه بلغة فخمة، وعبارات بهية، وألفاظ تمتاز بالجزالة، فصار من أفخر شعراء العرب لما نال إعجاب الناس وتقدير أهل اللغة والنحو. ولقد قيل عنه: ” لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ونصف أخبار الناس.”
وأكثر الفرزدق في شعر الفخر، يليه الهجاء وأخيرًا المديح، وإن برع أيضًا في الرثاء والغزل. ولفخامة شعره قرّبه الخلفاء الأمويين الذين امتدحهم وأعجبهم مدحه، لكنه سرعان ما فقد تلك المنزلة عندما ناصر آل البيت.
ولم يدرك الفرزدق وجرير والأخطل عصر الجاهلية، لكنهم كانوا من طليعة شعراء الإسلام، وكانت تربطهم رابطة صداقة قوية. وقيل أنه قد دبت الخلافات بين الفرزدق وجرير لما تحاسدا، فصارت بينهما نقائض وهجاء استمر لفترة أربعين عامًا. لكن، موت الفرزدق أحزن جرير كثيرًا، وجعله يرثيه بواحدة من أجمل قصائد الرثاء.
لكن، بالرغم من كل ما ناله الفرزدق من حظ جميل في الشعر والشهرة، إلا أنه وقع في فخ الأنانية عندما اشتهى إمرأة لم تكن له، خلَّد اسمها في أشعاره بالرغم من أنها أيقظت نيران قلبه وحنقه. وكانت تلك المرأة هي “نوَّار” ابنة عم الفرزدق التي اقترن اسمها بسيرته، كحال اقتران خبره بجرير. فلقد أحبت “النوَّار” رجلًا من بني أمية أراد أن يتزوج بها، فذهبت لابن عمها الفرزدق فخرًا به، وأرادته أن يكون وليِّها. فاشترط الفرزدق أن توكِّله ليزوجها، فقبلت، وذهبت معه إلى الجامع لتشهد الجميع أنها وكَّلته في أمر زواجها. فباغتها الفرزدق بقوله “واشهدوا أني زوجتها نفسي، فهي ابنة عمي وأنا أولى بها.” راع “النوَّار” ما فعله الفرزدق، فغضبت وهربت. وكلما كانت تستجير بقبيلة في البصرة، كانوا يردونها خالية الوفاض لأنه شاعر العرب وفخر بنو تميم، الذين هم أكثر أبناء العرب عددًا وأشدُّهم بأسًا وأوسعهم أرضًا، ولهم الكثير من الحلفاء في كل مكان، لدرجة أنه قيل لو خيِّل لأحدهم أن يشهر السلاح في أي شخص فيهم، لهرعت الجحافل لنصرته. ومن ثمَّ، لن يجيرها أحد؛ فلا طاقة لأي قبيلة باحتمال لسانه البارع في الهجاء، ولا بسيوف قومه الذين سوف ينصرونه في كل الأحوال.
بيد أن “النوَّار” كانت عازمة أن تفك نفسها من أسر عبوديتها التي أجبرت عليها بسبب زواجها غدرًا من الفرزدق، وبمساعدة أخوالها هربت من البصرة، وذهبت للحجاز للزبير بن العوَّام الذي بايعه قومه بالخلافة، لكنه كان على أهبة الحرب مع بني أميَّة في الشام. ومع ذلك استجارت “النوَّار” بزوجة الزبير، التي أجارتها. لكن، تعقَّب أثرها الفرزدق وذهب للحجاز مطالبًا بزوجته. فاختلفت على الزبير المشورة؛ حيث نصحه البعض أنه بحاجة إلى لسان تميم ونصرة قومه في حربه مع بني أميَّة، في حين نصحته زوجته أنه إذا عجز أن يجير إمرأة استنجدت به لن يكون السيِّد المهيب بين العرب. ولاجبار الزبير أن يرد له زوجه، قام الفرزدق بهجاءه هجاءًا قاسيًا. وخوفًا نفسه، قام الزبير بحث “النوَّار” أن ترجع لزوجها، وإلا قتله واستراح منه. فاستهجنت “النوَّار” قتل ابن عمها بسببها، ورجعت إليه كارهة.
لكن هروبها فضح الفرزدق بين العرب، وصار مثار معايرته. مما أجج نيران انتقامه منها؛ فعزم على خيانتها لإذلالها. فوعد إحدى الجواري أن تأتيه في ساعة من الليل؛ ليقضي ليلته معها. ولما علمت “النوَّار” بأمره، أخبرت الجارية بعزمها أن تكون مكانها في تلك الليلة، لطالما سوف يتم كل شيء في جنح الظلام بعد أن تنطفيء القناديل، وهو شيخ كبير لن يكتشف الفرق. وبالفعل، كان ذلك ما فعلته الجارية، وكانت المفاجأة الكبرى اكتشاف الفرزدق في الصباح أن “النوَّار” هي من شاطرته سريره بالأمس.
والقصة بها عبرة كبرى، فلقد انتقمت “النوَّار” لنفسها ممن خدعها وظلمها، وأعلمته أنه لن يستطيع سلب حريتها أبدًا، وأنها هي من تختار من تكون معه، ومن تهجره، وليس هو. ولم تكرر “النوَّار” ما فعلته معه مرة أخرى، ولما حاول إثارتها بالزواج بأخرى لم تكترث لأمره وكأنها تعاقبه وتزيد من إذلاله وإزجاء فضيحته بين العرب، إلى أن طلقها في نهاية الأمر صاغرًا، ولحقه العار طوال حياته، وحتى بعد موته بقرون طويلة.
فالحرية لا يمكن سلبها غدرًا، والأنانية كفيلة أن تدمر شخصيات عظيمة وتوقعها في شرك عبودية أبدية. فبالرغم من وقوع “النوَّار” في شرك الزواج القسري، كانت هي من تقرر مصيرها وتفعل ما تراه صالحًا حتى تعطي لابن عمها الأناني درسًا أذاقه الويل حتى إلى بعد مماته بقرون. كان درس “النوَّار” قاسيًا، واحتل اسمها الكثير من أشعاره وكأنه يزجي نيران فضيحته.