التوجه الثابت للنظام الديمقراطي الرأسمالي نزعته المادية و إيمانه بعدم إتصال الحياة ونظامها الاجتماعي بمسألة الأيمان باالله، بمعنى أنَّه لاعلاقة بين الايمان باالله وبين وضع القوانين والنُظم الاجتماعية التي تنظم حياة الانسان وهذا ما يسمى بفصل الدين عن السياسة بمعنى إدارة شؤون العباد والبلاد، فضلًا عن عدم أيمانه بما وراء المادة مطلقًا، بالرغم من أنَّه استبطن الماديَّة ولم يجرؤ على التصريح بها، أو إرتكازه عليها في تفسيره للحياة ومعالجة المشكلة الاجتماعية، وهنا سنتناول- بالشرح- الأدلة التي طرحها الأستاذ الصرخي والتي أثبت فيها ماديَّة الديمقراطية الرأسمالية وفصلها للنظام الاجتماعي عن الايمان بالله، وفقا لما جاء في كتابه (“فلسفتنا” بإسلوب وبيان واضح) (الحلقة الأولى) (الإسلام ما بين الديمقراطيّة الرأسماليّة والإشتراكيّة والشيوعيّة)، فقد إتضح:
إنَّ الأساس الذي طُرحت فيه الرأسمالية الديمقراطية كنظامٍ لمعالجة المشكلة الاجتماعية قائمٌ على فكرة عدم وجود شخصية معصومة( فردًا أو مجموعة) بلغت من العصمة الدرجة التي تجعلها قادرة على تشريع وصياغة نظامٍ إجتماعيٍ لمعالجة المشكلة الاجتماعية و إقامة حياة صالحة على ضوئه، وهذا الأساس لا يمكن أن يكون له معنى ولا وجودًا الا باحدى الحيثيتين أو الاعتبارين الآتيين:
أولا:إنَّ النظام الاجتماعي الذي يتكفَّل معالجة المشكلة الاجتماعية لا يمكن أنْ يتم تشريعه وصياغته ووضعه إلًّا من خلال عقلية بشرية محدودة- لا نعلم من اين جاءت بهذه الفرضية وكيف أثبتت تماميتها!!!- وهذا يعكس عدم إيمان الرأسمالية بوجود عقليةٍ أرجح من العقلية البشرية المحدودة، بل لا تؤمن بوجود عقليةٍ غير بشرية أصلًا كما سيتضح لاحقًا، لأنَّها لو كانت تؤمن بذلك لأوكلت مُهمة صياغة النظام الاجتماعي إليها، لأنَّ العقل والمنطق وحتى ضابطة المنفعة الفردية التي تتبناها، يفرض عليها بالرجوع الى تلك العقلية الأرجح من العقلية البشرية المحدودة، وهذا بدوره يكشف عن عدم الايمان بما وراء المادة وحدود المادة، ومنها الغيب والارتباط بالمطلق، وهذا يعكس التفسير الفلسفي المادي للحياة الذي يتبناه النظام الديمقراطي الرأسمالي الذي يستبطن هذا التوجه ويحاول عدم اظهاره أو الاعلان عن تبنيه.
ثانيا:إنَّ النظام الرأسمالي الديمقراطي جاهلٌ بمدى العلاقة والارتباط الطبيعي بين التفسير والنظرة الواقعية للحياة( المسألة الواقعية) وبين المشكلة الاجتماعية باعتباره قد إختزل الحياة والانسان بالمادة وحدَّدهما بحدودها دون الايمان بجوهرها وما وراء المادة فانكر حياة ما بعد الموت والارتباط بالمطلق، وانكاره هذا يعني عدم إيمانه بوجود خالقٍ حكيمٍ مُدبِّرٍ خلق الوجود ووضع النُظم والقوانين بصورة مُتقنة ومُحكمة لضمان حياة سعيدة في الدنيا والآخرة، ويتفرَّع عن هذا مؤكدًا إنكار النبوة والرسالات السماوية من الاصل والتي بعثها وأنزلها الخالق المُدبِّر لأنَّه أصلًا ينكر وجود الخالق.
أو أنَّه لا يؤمن بوجود العصمة الذاتية، أو المكتسبة للانبياء و الأولياء، وهذا بدوره يتفرَّع عنه نفي وجود شخصية أو مجموعة من الافراد بلغوا من العصمة الدرجة التي تمكنهم من تشريع وصياغة ووضع نظامٍ إجتماعيٍ قادرٍ على معالجة المشكلة الاجتماعية وتوفير حياة سعيدة للانسان، فتبقى العقلية البشرية المحدودة- بحدود المادة- هي المُشرَّع الأوحد للنظام الاجتماعي الراسمالي، وبهذ يتضح أنَّ الراسمالية قد تبنَّت المادية نظريًا وعمليًا.
يقولُ الأستاذ الصرخي في كتابه المشار إليه: « والمتحصّل: إنَّ النظام الرأسمالي يفقد النظريِّة الفلسفيِّة الواقعيِّة للحياة التي لا بُد لكلِّ نظام اجتماعي أنِّ يرتكز عليها، وأنَّ الرأسماليِّة نظام مادِّي، وإن لم يكن مُقامًا على فلسفة مادِّيِّة واضحة الخطوط»، انتهى المقتبس.
أقول: مِنْ المفارقة الغريبة، بل من التناقضات أنَّ الديمقراطية الرأسمالية تقرُّ وتعترف أنَّه لا توجد عصمة، فضلًا عن وجود شخصية معصومة، وبنفس الوقت تطرح نظامها كمشروعٍ متكاملٍ لمعالجة المشكلة الاجتماعية وتدافع عنه وتناقش وتنتقد، بل تُبطل غيره، والذي وضعه- أي وضع نظامها- وبحسب مبناها شخصيةٌ غير معصومة تخطأ وتسهو، فكيف إذن جمعت بين القول بتمامية نظامها وأنموذجيته وبين إيمانها بعدم وجود عصمة أو شخصية معصومة، أي بين أنَّ مَنْ وضع نظامها يخطأ ويسهو، فبناءًا على مبناها وإيمانها فإنَّ وقوع الخطأ والنقصان في مبادىء وتفاصيل نظامها واردٌ مؤكدًا، وهذا ما أثبته الواقع والتجربة المعاشة حيث قد ثبت فشل الديمقراطية الرأسمالية في معالجة المشكلة الاجتماعية.