بعد احتلالها للعراق حاولت الولايات المتحدة تطبيق الديموقراطية الانتقائية على هذا البلد العريق بما يحقق مصالحها الحيوية، اكثر من رغبتها بتحقيق الديموقراطية الشاملة التي تلبي طموحات الشعب بالتمثيل النزيه ، وقد حرص كاتب الدستور على تقسيم الشعب العراقي الى مكونات شيعية وسنية وكردية . فانقلبت الديموقراطية الى محاصصة ابتزازية للاحزاب ، مع تمثيل شكلي لهذه لمكونات .
وبعد مرور أكثر من عقدين على الغزو الأمريكي، أصبح من الواضح أن الجهود الرامية لجلب الديمقراطية إلى العراق قد فشلت
نتيجة الانتكاسات الكبيرة التي واجهت هذه التجربة ، حتى اضحت العملية الانتخابية لا تلبي إرادة الشعب الفعلية .
ان البرلمان الذي صوت لرئيس الوزراء الحالي هو ليس الذي تم انتخابه .
حيث فاز التيار الصدري بأغلبية الأصوات في عام 2021، وبعد انسحاب جميع ممثليه من البرلمان،
تم ملء الشواغر بأعضاء غير منتخبين من الاطار التنسيقي .
وتسبب ذلك بانعدام الثقة بالمؤسسات السياسية .
يجرى التسائل كثيرا حول جدوى الحكم الديمقراطي في البلاد مع هذا الكم الهائل من الخروقات الدستورية والامنية والفساد المستشري .
إن العراق لم يصل بعد إلى مايشير إليه علم السياسة بـ “الديمقراطية الراسخة”. حيث أصبح التلاعب بنتائج الانتخابات امرا مألوفا” . ولا يزال هذا الخطر قائما نظرا لانتشار الميليشيات المسلحة والأحزاب التي تستخدم العنف أو التهديد لترهيب المرشحين والناخبين .
والمشكلة الأخرى تكمن في نظام المحاصصة الذي تم تبنيه عمليا ، مما شجع الفساد وتقاسم الغنائم بين الكتل والاحزاب ، وعمق الاختلاف العرقي والديني على حساب الهوية الوطنية العراقية.
واذا اردنا كشف التعقيدات التي رافقت التجربة الديمقراطية نجد إن هناك عوامل عديدة ساعدت على فشل هذه التجربة في العراق لعل اهمها :
اولا . . التحريض على الطائفية والانقسامات العرقية:
العراق بلد متنوع من المجموعات الدينية والعرقية، يضم العرب والكرد والتركمان والآشوريين من بين آخرين ، ثم جرى تقسيم العرب الى شيعة وسنة .
ولسوء الحظ كثيراً ما استغل القادة السياسيون هذا الطيف المتنوع لتعزيز أجنداتهم الخاصة، حتى أدى إلى الاسقطاب العرقي والطائفي
بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية .
ثانيا . . انتشار الفساد
لا يزال الفساد يشكل تحدياً كبيراً في العراق، مما يؤدي باستمرار إلى تآكل الثقة في الحكومة وإعاقة التقدم الديمقراطي .
وقد تسبب الافتقار للشفافية والمسائلة إلى إدامة ثقافة الرشوة والمحسوبية واختلاس الأموال العامة .
كما ابتليت المؤسسات الحكومية بالفساد والتدخلات الحزبية . وفي غياب مؤسسات قوية لدعم سيادة القانون وحماية الحقوق الفردية، تظل الديمقراطية بعيدة المنال .
ثالثا . . التدخلات الخارجية :
اصبح العراق ساحة معركة للقوى الإقليمية والدولية التي تتنافس على النفوذ والسيطرة على منابع الثروات .
وأدت التدخلات الأجنبية إلى زعزعة استقرار البلاد وأججت التوترات الطائفية والعرقية . اضافة الى ان الدول المجاورة قد دعمت الكتل والجماعات الوكيلة داخل العراق، وخصوصا ايران ، مما أدى الى تقويض الجهود المبذولة لبناء دولة متماسكة موحدة . واخل بالسيادة الوطنية ، وزاد من تعقيدات انتقاله إلى الديمقراطية .
رابعا . . عدم الاستقرار السياسي :
واجه العراق عدم استقرار سياسي مستمر وأعمال عنف، نتيجة لانتشار الميليشيات الحزبية والولائية . واصبحت الاحزاب الدينية غولا لنشر القمع والاستبداد الذي طبع المجتمع العراقي .
إن العودة الى عسكرة العراق لا تخلو من مخاطر بالنسبة لعدد كبير من ابناء الشعب العراقي . وهذه الظاهرة عرقلت التحول إلى الديمقراطية بسبب استمرار النزعة الاستبدادية بين النخب السياسية وانعدام الثقة في العملية الديمقراطية . وينظر العديد من العراقيين إلى الديمقراطية على أنها مرادفة للفوضى وانعدام الأمن، مما يدفع البعض للتطلع إلى استقرار الماضي، على الرغم من طبيعته الاستبدادية .
خامسا . . تقييد منظمات المجتمع المدني :
إن تطوير مجتمع مدني نابض بالحياة ومستقل أمر أساسي لديمقراطية قوية . وقد واجه المجتمع المدني في العراق تحديات عديدة ، مثل حرية التعبير المحدودة، والقيود المفروضة على وسائل الإعلام، ونقص الموارد والدعم .
ويواجه ممثلوه يومياً العنف وتدخلات الاحزاب وقوى الدولة. ويتعرض أعضاء الجمعيات والنشطاء للمراقبة والاعتقال المتكرر، مما تعذر ترجمة أعمالهم إلى ثقافة مدنية حقيقية .
وقد أعاق ذلك قدرة منظمات المجتمع المدني على لعب دور فعال في تعزيز القيم الديمقراطية ومحاسبة الحكومة .
سادسا . . التحديات الاقتصادية :
تعرض الاقتصاد العراقي لضربة شديدة بسبب اهمال الصناعة والزراعة لسنوات طويلة ، مما أعاق قدرته على توفير الخدمات الأساسية والفرص للمواطنين .
إن ارتفاع معدلات البطالة والفقر وعدم المساواة يؤدي إلى تغذية السخط وتوفير أرض خصبة لترسيخ الأيديولوجيات المتطرفة .
وبدون معالجة المظالم الاقتصادية الأساسية للسكان، فمن غير المرجح أن تزدهر الديمقراطية في اي بلد .
واليوم، لم يعد العراق أكثر سلاما أو ازدهارا عما كان عليه قبل عام 2003 . ومازال العراق من أكثر الدول هشاشة على وجه الأرض .
وعلى الرغم من هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في الديمقراطية في العراق .
ويتطلب بناء نظام ديمقراطي مستدام معالجة الأسباب الجذرية لفشله .
ان فشل الديمقراطية في العراق هو فشل بنيوي للنظام السياسي وعلاقته مع المجتمع التي وصفها صومائيل هنتنغتون بالانحلال أو التفسّخ السياسي .
وسيتطلب ذلك بذل جهود حقيقية للتغيير الجذري من الجهات الفاعلة المحلية والدولية لتحقيق المصالحة، وتعزيز المؤسسات، ومكافحة الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة .
وعند ذلك فقط يمكن التغلب على مشاكله وتحقيق الديمقراطية وبناء مستقبله الزاهر .