23 ديسمبر، 2024 5:53 م

فشل الاحزاب العراقية الطائفية في قيادة الدولة

فشل الاحزاب العراقية الطائفية في قيادة الدولة

كان العراق في عهد النظام السابق  يعيش حالة من الحرمان من ابسط مقومات الحياة ,وبسبب العقوبات الاقتصادية انتشر الجهل والتخلف بشكل كبير في اوساط الشعب العراقي. لقد اتبّع النظام السابق سياسة داخلية قمعية واستبدادية وقاسية عانى العراقيون من جرائها الويلات وكثرت الانقسامات وزاد الفساد الذي نعيش نتائجه إلى اليوم. وبعد سقوط  النظام السابق، بدأ الارهاب وكل وسائل التدمير بتدمير ماتبقى.. إن تقوية الدولة والجيش والأمن يبدأ بإلغاء الفساد الذي تتمّثل أولى مظاهره في جانبه الرسمي والعلني والقانوني. إن القضاء على الفساد يتمّ بإصلاح سمعة القيادات والمسؤولين وأعضاء البرلمان وكبار موظفي الدولة، بدءاً بتقليل رواتبهم وامتيازاتهم التي تفوق حتى مستويات الدول الكبرى, أن المشكلة الحقيقية لكل الأطراف السياسية في العراق هي غياب المشروع الحقيقي لبناء الدولة، حتى أنهم لا يمتلكون مشروعا أصلا. أن قيمة المشروع السياسي تكمن بأن هناك آيدلوجية معينة قائمة على مباديء  واضحة في بناء الدولة، ان مشروع بناء الدولة  ينبغي ان ينطلق من الواقع , بل يعتمد على الرؤية المستقبلية لما يجب أن يكون عليه شكل الدولة ومؤسساتها وكيف يمكن للمجتمع التواصل مع تلك المؤسسات. فالأحزاب الإسلامية، بكل أطيافها، مازالت تتداول أفكار الماضي، إذ تريد تطبيقها ولا تعلم بأن التيارات الإسلامية في مصر وباكستان وأيران تعيش أزمة حكم حقيقية فالأحزاب السياسية القائمة ملزمة بإقناع الرأي العام العراقي بدورها الايجابي في بناء الوطن ، وخدمة المواطن ، وتمهيد الطريق لبناء دولة حقيقية . 
فنجد  أن هناك تصورا مشوها لمفهوم الديمقراطية والحرية والمساواة وما تعني المواطنة ومن هو الآخر وما هي الهويات الفرعية وكيف يمكن الحفاظ عليها، إذ نجد أن هناك خلطا بين الدين والسياسة ولاتوجد حدود فاصلة بينهما ليعرف المتدين والسياسي حدودهما فيتحركان ضمن الأطر المرسومة في الدستور. ونتيجة لذلك أتجهت تلك التيارات الإسلامية للمشاريع الطائفية لتحشيد القاعدة الجماهيرية لها. إن تجربة السنوات ما بعد سقوط الديكتاتورية  أثبتت فشل نظام المحاصصة الطائفية والقومية في قيادة  الدولة العراقية، لأنه مخالف للديمقراطية ولا يعترف بقيمة المواطن ومؤهلاته،بل يهتم  بانتمائه الطائفي والجهوي. لقد أدت المحاصصة إلى شلل البرلمان وضعف الدولة وانتشار الفساد والمحسوبية، لأن المسؤول لا يشعر بالانتماء للدولة وللشعب بل للطائفة والقومية والحزب. إن قيام بعض الأحزاب والجماعات والقيادات بالدعوة إلى مشروع وطني لا يكفي أبداً، ما لم يقترن بالإعلان رسمياً عن تغييرات في النظم الداخلية لهذه الأحزاب وتغييرأنظمتها الداخلية وبرامجها ومعتقداتها الطائفية والقومية العنصريةالمغلقة. إن العراق  يعتبر من أكثر البلدان التي تتمتع بانسجام قومي وثقافي وديني. إن مشكلة العراق الحقيقية ليست بتنوعه القومي أو الديني لان هذا التنوع يعتبر قوة للدولة كما هو الحال بالنسبة لامريكا نفسها ، بل أن ضعفه يكمن في الانقسام الطائفي. لهذا فأن إلغاء هذا الانقسام الطائفي يعد المهمة الأولى والكبرى والأساسية من أجل بناء (هوية وطنية) ودولة مستقرة وطنية تاريخية، وثقافة وطنية عراقية، تعتبر الوطن هو الأساس وليس الطائفة. ان الدستور العراقي يحوي على الكثير من الثغرات ، ويحتاج الى تشريع الكثير من القوانين من اجل شرح وتوضيح العديد من قوانينه ، وقد تدخلت في صياغته ايادي ارادت له ان يبقى مثار جدل بين اطياف العملية السياسية ، وهذا ما نلاحظه اليوم في التفسيرات المتقاطعة للكثير من بنوده.
أسهم الاحتلال الأمريكي في تغيير موازين القيادة داخل العراق بعد سقوط النظام، حيث أدى إلى بروز تيار الإسلام السياسي كقوة فاعلة في العراق، تزامناً مع فشل المشروع القومي ، وتعثر اليسار العراقي والعربي بشكل عام. فأصبح العراق تحت قيادة احزاب اسلامية  انعكس ذلك سلباً على الداخل السياسي العراقي، من حيث تعامل الحركات السياسية الطائفية مع بعضها بعضا دون الاعتماد على النهج الديمقراطي في تسيير عجلة العملية السياسية. إن دور العراق في المشروع الأمريكي فيما بعد الانسحاب حددته الأطراف الرئيسية في العملية السياسية ، ويتحدد ذلك من خلال المفاوضات بين الجانبين على أسس وطنية تسهم في تصحيح مسار العملية السياسية، وذلك بإلغاء المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة الوطنية، وتفعيل دور المصالحة الوطنية، واستيعاب كافة الأطراف في بناء مركز الدولة، بالإضافة إلى عقد المؤتمرات الوطنية الفعالة مع الفصائل المعارضة والتي لم تتلطخ اياديهم بالدم العراقي ، ومحاولة دمجها في التشكيل الحكومي. كل ذلك من شأنه أن يدفع باتجاه بناء عراق قوي يستعيد مركزه وقوته الداخلية والإقليمية، وإفشال مؤامرات المشروع الأمريكي التي تسعى  إلى إعادة المشروع من الخارج للتأثير فى الداخل العراقي، بعد استغلال الضعف الداخلي. تكمن ازمة الدولة في المنطقة بشكل عام  وفي العراق بشكل خاص  انها كانت نتيجة طبيعية للإستعمار الكولنيالي، فهي لم تكن نتاجا طبيعيا للبيئة المحلية ولا تعبيرا عن رغبات الجماعات السكانية المتنوعة او تمثيلا طبقيا للمجتمع، بل انها كانت نتاجا فوقيا .
ان الازمة الامنية، التي تولدت من الازمة السياسية، ووقوف  النخب السياسية وراء  طوائفهم .واستفحلت هذه الازمة بسبب انشغال الساسة بمشاكلهم، والعمل على تصفية الحسابات فيما بينهم، ما جعل الباب مفتوحا امام الجماعات المسلحة، المدعومة من دول عربية واقليمية ، بتثبيت موطأ قدم لها في العراق، والعمل بفعالية كبيرة، جعلت من العراق مرتكزا للارهاب العالمي الذي مهد للحرب الطائفية. هذا بدوره نتج عنه تدخلات من دول اخرى خلقت اوضاعا سياسية جديدة ترتبط بشكل أوبآخر بها وتتوافق معها في رسم  سياستها العامة، خصوصاً في القضايا الدولية، وهذه الدول هي التي ادامت الصراع من خلال الدعم المالي واللوجستي لبعض الاطراف السياسية العراقية، ودفعت بالوضع الى حالة عدم الاستقرار السياسي الدائم، وبات البلد مرتكزا لتصفية الحسابات بين هذه الدولة وتلك، ما اجاز بالضرورة محاولة كل هذه الدول الى التدخل حتى في موضوع المصالحة الوطنية، بل محاولة ادارتها بنفسها، وفرض شروطا معينة من اجل تمرير بعض النقاط التي تخدم مصالحها ووجودها في المنطقة.
لقد أدركت النخب العراقية الحاكمة أن  برنامج الإصلاح المطلوب يعني إلغاء وجودها نفسه لصالح صعود نخبة جديدة، وبالتالي أنها عملية انتحار ووقفت بجميع الوسائل ضد برنامج الإصلاح الذي يشكل  برنامج انقلاب على النظم المركزية واستبدالها بنظم تعددية.من المستحيل تجاوز المحاصصة الطائفية في الدولة ما دامت موجودة في الاحزاب نفسها. إذا كانت الاحزاب الاسلامية غير قادرة على تجاوز طائفيتها والتحول الى أحزاب اسلامية جامعة لكل الطوائف، فكيف يمكنها أن تجعل الدولة تتجاوز الطائفية, ان من أهم مهمات المثقفين العراقيين العمل على نشر الفكر الوطني الذي يدعو الى جعل الوطن ووحدته فوق كل اعتبار . ان هذه الثقافة الوطنية وحدها القادرة على تحويل الاحزاب الطائفية الى أحزاب وطنية. وبالتالي الغاء الطائفية من الدولة والمجتمع والثقافة. لو أخذنا كمثال، حالة عنفية معروفة، هي الحرب العالمية الثانية أواسط القرن الماضي، لوجدنا إن هذه الحرب اندلعت كتعبير عملي عن ثقافة العنف التي كانت سائدة حينذاك، من الحقد والعداء للآخر التي تراكمت في نفوس الاوربيين، خلال سنوات طويلة من المظالم الوطنية والطبقية. إن من يراجع النتاجات الثقافية السائدة في أوربا قبل اندلاع الحرب، يلاحظ بكل وضوح طغيان النصوص والخطابات التي تدعوا الى العنف وتبرر التضحية بالذات وقتل الآخر. أية حرب، دولية كانت أم حزبية أم طائفية، تقوم بتأثير مجموعة  من القادة والمحاربين والمتطرفين. بل هي تقوم أولاً، وتتغذى وتبرر ديمومتها، بواسطة شبكة واسعة ومعقدة من القناعات والمواقف الثقافية والنفسية التي تمنح للمحاربين زخماً للتضحية بالنفس وللحقد على الخصوم وتبرير قتلهم. وهذه الشبكة الثقافية الواسعة، لا يمكن أبداً لحزب أو منظمة أو جهاز، وحده أن يصنعها، وفي فترة زمنية قصيرة، بل تشترك في صنع هذه القناعات والمواقف جهات ثقافية وسياسية ودينية متعددة ومختلفة وليس بينها أي تنسيق بل ربما هي مختلفة ومتصارعة، لكنها خلال فترة طويلة اشتركت من دون قصد وبأشكال مختلفة ببث وتبرير هذه القناعات والمواقف التي تشجع الحقد على الآخر وتبرر مفهوم التضحية بالنفس بأسم الاستشهاد، والانتقام من الآخر وقتله بأعتباره عدوا  .
 بعد انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي من العراق نهاية 2011، ومع استمرار الطائفية السياسية الداخلية، عاش العراق حالة من الصراع الإقليمي جعلت من الصعب عليه أن ينال استقراره السياسي والأمني بسهولة، وتنذر بوقوع صراع سياسي كارثي مدمر قابل للانفجار في أي لحظة، خاصة في ظل التطورات السياسية في المنطقة العربية. أما على الصعيد الاجتماعي فلم يشهد العراق من قبل تشتت وتشظي للهوية الوطنية كما حدث بعد سقوط النظام السابق. فقد تعرض النسيج الاجتماعي العراقي إلى التمزق على أساس طائفي ولم تبذل الدولة أي جهد يعيد الإندماج بين الطوائف والقوميات والإثنيات المختلفة. لقد تطور شعور الإنتماء الطائفي على حساب الهوية الوطنية بسبب السياسات الطائفية التي إنتهجتها بعض الأطراف السياسية وبسبب المشاريع الأقليمية التي تريد أن تدخل العراق في دوامة العنف لأسباب دينية واقتصادية وسياسية. أن غياب الطبقة الوسطى التي حطمها النظام السابق، والتي تتكفل بالتغير في كل بلد، بسبب فلسفة اقتصاد السوق وبسبب اعتمادها التام على الدولة كطاقة تشغيلية أعاق أي عملية تطور وتحول نحو الديمقراطية. ربما يتم التخلص من المآزق عن طريق ادارة سياسات الهوية على نحو يكفل توزيع الثروة والسلطة بشكل عادل، وهو السعي الذي عبرت عنه النخب السياسية من خلال نموذج الديمقراطية التوافقية ، فقد كانت نتائجه معرقلة  لمشروع بناء الدولة خلال السنوات الماضية. و هذا الفشل لا يمكننا إنكاره وهذا الفشل جاء كنتيجة معروفة حيث أن مكونات عديدة في زمن النظام الدكتاتوري تعرضت للظلم و الاضطهاد و اضطرت بعد سقوط النظام لعمل جهات تمثلها لكي لا تتعرض لما تعرضت له سابقا و تضمن حقوقها التي حرمت منها و كان من المؤكد أن يلتف هذا المكون أو ذاك حول الجهة التي تمثله لكي يحصل على حقوقه التي سلبت منه منذ وقت طويل و السبب الثاني الذي ساهم في – تفكك البنى الاجتماعية والنفسية والثقافية وتمزق النسيج الاجتماعي والعائلي والاخلاقي الذي ظهر في المآسي التي حلت بالعائلة والطفولة وتزايد نسبة الارامل واليتامى والمقعدين وارتفاع نسبة الامراض النفسية والعصبية والسرطانات وكذلك ارتفاع نسبة الجريمة والجنوح والعصابات والزمر الاجرامية وانتهاكات حقوق الانسان التي شملت الاغتيالات وقطع الايدي والاذان والمقابر الجماعية، الى جانب انحراف القيم والتحلل الاجتماعي. وقد سبب كل ذلك ضمور الطبقة الوسطى وارتفاع نسبة البطالة والمجاعة.
 أن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه التحالف الغربي لا يلغي أيضا مسؤولية قوى التغيير المحلية، وتكمن هذه المسؤولية في العجز الذي أظهرته هذه القوى عن إدراك الرهانات الكبرى التي يرتبط بها الإصلاح. فقد اعتقدت هذه القوى أنها تستطيع إذا اقتنعت النخب الحاكمة ببرنامج سلمي للإصلاح. والواقع أن دعوة الإصلاح العربية قامت منذ البداية على سوء تفاهم كبير شاركت فيه القوى المحلية الداعية للإصلاح كما شارك فيه التحالف الغربي أيضا. فقد نظرت هذه القوى إلى الإصلاح على أنه مقدمة للتغيير أو محاولة لتغيير النظم من الداخل والاتفاق على برنامج عمل انتقالي يسمح بتجاوز الوضع الراهن والدخول في نظم تعددية حقيقية في المستقبل .