18 ديسمبر، 2024 11:52 م

فساد الذيل والرأس

فساد الذيل والرأس

كان يتمتم على باب مصعد المستشفى، وكأنه غير راضٍ عن الواقع، يتحدث لوحده ويحاول إسماع الواقفين بإنتظار باب المصعد المخصص للموظفين، لم نفهم كلامه كاملاً، ولكن من بعض العبارات عرفنا ماذا يقصد.
كان يتحدث بغضب وانزعاج ( ماكو حكومة، ولا مصاعد.. فساد، موظفين لا يعملون، مراجعين،خدمات ماكو.. لاشيء) وهكذا إسترسل ليسمعه كل الواقفين، وهم يهزون رؤوسهم بموافقته بما يقول.
لم أتحمل أجبته على فوري: لماذا لم تستخدم المصعد المخصص للمراجعين، فهناك أربعة مصاعد سعة الواحد منها 30 شخصا، ومصعدي خدمات للحالات الطارئة، ومصعدين للعمليات والحالات الحرجة، وهذا المصعد مخصصة للأطباء والعاملين في المستشفى، ويعمل إثنان منهما زوجي والأخرين فردي، لتسهيل تنقلهم، فأجابني أن تلك المصاعد لا تكفي المراجعين ونحن في الساعة التاسعة صباحاُ، وبعد يومين من رقود مريضي وجدت هذه المصاعد أسرع.
قلت له أن 90% من المراجعين هم في زيارات للمرضى، من أقارب وأصدقاء، ومعظمهم شباب يتدافعون على باب المصعد، ومنهم من لا يسمح للمريض العاجز بالصعود قبله.. وأضاف أن الأمر لا يتعلق به فحسب، والدولة لا توقفها هذه المفردات، والأعراف والتقاليد تدعونا نأتي صغار وكبار لزيارة المريض في المستشفى.
وصل المصعد وتأهب الواقفون للصعود، وإذا بي أراه يحمل كيساً فيه ” ترمس شاي” فسألته لمن هذا لمريضك؟ قال:لا بل لزواره والضيوف، ثم اكتشفت أنه “ترمس غلاية كهربائية” وأدخله من باب الإستعلامات بشكل قطعتين، أحدهما معه والآخرى مع شخص آخر “مراجع لا يعرفه” قال أنه ساعدني؟! وعندما حذرته من خطر “الهيترات” على السلامة العامة، ولكنه إستشاط غضباً عندما قلت له أن من واجب المستشفى خدمتك مجاناً، لكن ليس من واجبها تسديد كهرباء إضافية عنك أو تعويض حريق تسببه!!
هزَّ يده مستهزءا عند نزولي من المصعد، وسمعته يقول: “كلام مثاليات.. وين أكو دولة، كلها فاسدة، أتصرف بحصتي من النفط”؟!
من هناك خرج مريض من صالة العمليات، وهو ينقل إلى غرفته وما يزال تحت تأثير البنج العام، بعد عملية فوق الكبرى إستغرقت أربعة ساعات، وسمعته يشتم الأطباء والحكومة، وينتقد الوضع الحالي، ويدعي أنه مثال النزاهة، وقد وصف نفسه بأنه النزيه الأول في العراق!
هكذا هو الحديث إينما تذهب، في السوق والسيارة والشارع ومكان العمل، وحال معظم الناس كمن لا يزال تحت تأثير تخدير كثرة الكلام الذي يُقال عن الفساد وعن تعميم الإتهامات دون دليل، ومشاركة معظمنا دون إنتقاد نفسه، وربما هذا المريض سيشكر طبيبه بعد الشفاء، لكنه لا يشكر بقية الأطباء، وسيتبرأ حامل الهيتر في حال نشوب حريق في المستشفى، بل لم يفكر في لحظة عن فواتير الكهرباء التي يدفعها المستشفى، وعن نفايات يلقيها في الممرات.
على هذا الحال هناك مسؤول كبير وموظف صغير، يحاولان الإنتفاع من المؤسسة قدر ما يستطيعا، وعندما يتكلما تجدهما ناقدان، ويتحدثا عن تفشي الفساد، وضعف الخدمات، بينما إذا سأله مواطن شيئا وكأنه يعطيه من ماله الخاص، وذريعة أن الفساد لم يعد في الرأس بل وصل الذيل أيضاً.