17 نوفمبر، 2024 11:23 ص
Search
Close this search box.

فرنسا انحياز سياسي واعلام مضلل

فرنسا انحياز سياسي واعلام مضلل

لم تشهد فرنسا استقطابا سياسيا حادا بين احزابها المختلفة مثلما تشهده اليوم منذ بداية عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب القسام ضد دولة الاحتلال. يعود هذا الوضع الاستثنائي وربما التاريخي في الحياة السياسية الفرنسية لموقف الرئيس ايمانويل ماكرون وخطابه بعد أيام من العملية التي هزت العالم بدءا من الكيان المحتل الى حلفائه في أمريكا واوربا المساندين له. فقد وجه الرئيس ماكرون خطابا للشعب الفرنسي يقول فيه ان فرنسا تقف بدون شرط مع دولة الاحتلال ضد ما سماه “إرهاب حماس” وذلك دون التطرق الى الاحتلال ولا الى الشعب الفلسطيني ومعاناته. لم يكن نواب حزب الرئيس وحدهم ممن ايدوا وقوف فرنسا بدون قيد او شرط مع دولة الاحتلال بل ان الجديد والمستغرب هو ان اليمين التقليدي، ارث الجنرال ديغول والرئيس جاك شيراك الذي غالبا ما كان معتدلا ومتوازنا بل ينعت “بسياسته العربية” من الأقلام الصهيونية في فرنسا قد انحاز الى موقف ماكرون مع دولة الاحتلال بدون أي قيد. وقد التحق بهذا الموقف الحزب الاشتراكي الذي قرر يوما بأغلبية أعضائه في عهد الرئيس فرانسوا هولاند الاعتراف بالدولة الفلسطينية لكن هولاند شطب على هذا الاعتراف. اما اهم مفاجأة هذا الاستقطاب فقد جاءت من وقوف الحزب الشيوعي او “بقاياه” والتي اتخذت ولأول مرة موقفا منحازا لدولة الاحتلال رغم تاريخ الحزب المشرف مع الحقوق الفلسطينية دائما. اما اليمين المتطرف المعروف بمعاداته للسامية، فقد كان الانحياز الحكومي للكيان هدية قدمت له لينتهز الفرصة ويعيد ترديد اطروحاته حول الإسلام والمسلمين والمهاجرين ووجد ايريك زمورالمعروف بعدائه للإسلام والمسلمين والعرب والمساند لليمين المتطرف الفرصة لإعادة طرح مقولة صدام الحضاراتوتسويق أفكار المحافظين الجدد التي مهدت لغزو العراق، حول الإرهاب الإسلامي. يقول نائب اليمين المتطرف “فيليب تانجي” في تصريح لراديو واسع الانتشار: الإسلاميون عدونا المطلق اما إسرائيل فهي اختنا وحليفتنا وتجمعنا معها نفس القيم”.

بيد ان حزب فرنسا الأبية رفض خطاب الرئيس ماكرون وموقفه “الداعم دون شرط” واعتبار حماس “منظمة إرهابية“،  لحكومة الاحتلال جملة وتفصيلا واعتبره مسيئا لفرنسا ولدبلوماسيتها وللحقوق الفلسطينية التاريخية. وقد عقد جان لوك ميلنشون رئيس حزب “فرنسا الابية” سابقا والمرشح الرئاسي اكثر من مؤتمر وامام مئات من الحضور ليرد على خطاب الرئيس ماكرن وبقية الأحزاب بقوة بالقول ان منظمة حماس هي منظمة تحرر وطني مثلها مثل كل منظمات التحرر التي عرفها العالم في الدول المستعمرة منها الجزائر وفيتنام وأضاف ان كل هذه المنظمات استخدمت العمليات العسكرية لكي تتحرر، متسائلا ما هو الغريب في ذلك؟ لماذا لا تدان جرائمقصف المدنيين في غزة ام ان الأحزاب وجدتها فرصة مناسبة لها ” لتظهر تضامنها مع موقف الرئيس. وفي البرلمان رافعت النائبة ماتيلد بانو رئيسة كتلة الحزب عن موقفهم بقولها للنواب في المجلس لن تتمكنوا من تغيير موقفنا، منذ أسبوعين ونحن نطالب بوقف إطلاق النار، تتهمونا بمعاداة السامية وتصلنا تهديدات بالموت لأننا دعونا الى السلام والى ادانة كل جرائم الحرب. فيما تحدث نائب آخر هو “امريك كارونمن منصة المجلس الوطني ادان قتل المدنيين وبدأ بتعداد جرائم حرب جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الأطفال والنساء وغزة، وتسائل يبدو ان هناك معيارين للغضب هنا في المجلس! هناك أصوات غير موجودة لإدانة المصير الذي يواجه الفلسطينيون في هذه اللحظة كما لو ان حياة فلسطينية لها قيمة اقل من حياة إسرائيلية؟ ان تساؤل النائب امريك كارون جاء في الصميم لان عملية طوفان الأقصى قد اسقطت الأقنعة حتى عن بعض الأحزاب والشخصيات التي كانت تقليديا مع تطبيق القانون الدولي ومع الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطينية سواء في اليمين التقليدي ام في اليسار.

لم يقل التوتر في المشهد الإعلامي الفرنسي عن مثيله السياسي إذا لم يتجاوزه، فمجرد مشاهدة بعض القنوات الفضائية واسعة المشاهدة مثل قناة BFMTV وقناة CNEWS يشعر المشاهد بخطورة ما يدور وما سيدور ليس فقط في غزة بل في فرنسا وكأن البلد هي نفسها في حالة حرب لكسب معركة الرأي العام الإعلامية فيه لوجود جالية عربية هي الأهم في اوربا وجالية يهودية هي الثانية في العالم. هذه القنوات وأخرى غيرها بدت مصرة على انتزاع توصيف حماس بالمنظمة الإرهابية كبداية لكل نقاش مع مدعويها، مما يرجح ان ذلك يعود تنفيذا لتعليمات الاعلام العسكري الإسرائيلي الذي أكد على صحفيه واعلامه ربط حماس بتنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية في كل ما يقولونه وهو نفس ما ينشره في إعلانات واسعة على الانترنت باللغة الفرنسية وللجمهور الفرنسي.  

ان اول ما تمت ملاحظته من المتابعين للأخبار في هذه القنوات المملوكة من كبار الأغنياء من أصدقاء الرئيس ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنامين نتانياهو الذين اشتروا غالبية الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الفرنسية بعد الانتفاضة الثانية وتهشم صورة دولة الاحتلال في انحاء العالم بسبب اغتيال الطفل محمد الدرة، هو محاولة نزع إنسانية الفلسطيني مقابل الإسرائيلي “الانسان” والتقليل من فضاعه القتل الجماعي والمجازر واستخدام الأرقام ومفردات مثل “موت” و”وفاة” للفلسطيني كما لو ان الفلسطيني لا يملك اسما ولا قصة ولا صورة ولا عائلة او أصدقاء، وتحويلهم الى مجرد أرقام، وسط صور تقتصر على مشاهد الدمار، تمر وتعبر تحت البصر دون ان تحظى بالاهتمام او التضامن والدعم. فيما حفلت سردية قتلى الإسرائيليين بصور الأطفال وفيديوهات وقصص عنهم وعن سيرهم، وصور للشابات وقصص حياتهن وعملهن وهواياتهن وعطلهن واصدقائهن، وخصص هذا الاعلام صفحات وأحاديث عن شباب حفلات المثليين وتشابه ثقافتهم معهم ومع قراءاتهم واسفارهم. ورغم السيل الذي تلقته هذه القنوات والمواقع الإعلامية الواسع من الانتقادات عبر وسائل التواصل بسبب هذا التعاطي المنحاز والتشويه المقصود لصورة الفلسطيني، تستمر هذه الأجهزة فيسياستها التحريرية التي تنقل سرديات جانبا واحدا لا غير لأنها فضاءات تم شرائها لمثل هذه الأوقات لكسب معارك الرأي العام وشيطنة الفلسطيني والعربي والمسلم الذي يقف بوجه الاحتلال.

رغم انتشار هذه القنوات ومتابعتها من ملايين الفرنسيين، فأن بعض محطات الاعلام الرسمي الحكومي وعدد من الصحف والمواقع المستقلة على النت لشخصيات معروفة بالتزامها بالمهنية وبالقيم الموضوعية والإنسانية رفضوا الانجرار الى سردية قنوات أصدقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي وعادوا من جديد رغم مناخ الشيطنة والاتهام والتسقيط للكلام عن القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني ومعاناة الفلسطينيين تحت نظام عنصري بعد ان منعوا بعد الانتفاضة الثانية وخسارة الكيان وقتها للمعركة الإعلامية عالميا، من نشر أي شيء يخص فلسطين. ولعل اجمل ما رأيناه منذ السابع من أكتوبر هنا هو التضامن الكبير لنواب حزب “فرنسا الابية” الذين انشاؤا قنوات شخصية واستدعائهم مختلف الشخصيات للحديث عن قضية الشعب الفلسطيني وهم من بادر الى تنظيم تظاهره لدعم المقاومة حضرها اكثر من ثلاثين الف شخص ودعوا الى أخرى يوم السبت لان وزير الداخلية الذي يرى في كل مسلم وعربي وداعم للقضية الفلسطينية معاد للسامية قد منع التضامن والتظاهرات مع غزةلتكون فرنسا ووزير داخليتها الدولة الوحيدة التي تمنع حرية التعبير والتضامن مع غزة رغم تعارضها مع القانون والدستور وبالأخص مع حقوق الانسان!

أحدث المقالات