23 ديسمبر، 2024 2:54 م

فرقة المسرح الفني الحديث

فرقة المسرح الفني الحديث

 يمكن اعتبار تأسيس (فرقة المسرح الفني الحديث ) كما كانت تسمى وقت تقديم الفنان (ابراهيم جلال) طلب الاجازة عام 1952م ، حيث ضمت هيئتها الادارية الاولى اضافة الى (ابراهيم جلال) رئيسا ، كلا من (يوسف العاني) سكرتيرا ، و(عبدالرحمن بهجت) محاسبا ، ويعقوب الامين (عضوا) ، يمكن اعتبار تأسيسها منعطفا هاما في تاريخ تطور الحركة المسرحية في العراق من النواحي التنظيمية والفنية والفكرية والسياسية ، اذ طرحت نفسها بقوة في وقت كانت فيه الفرقة الشعبية سيدة الساحة ومستندة على انجاز مسرحي هام وسمعة طيبة وتشكل حدا فاصلا بين فرق اخرى كانت اقل مساهمة وقيمة فنية وفكرية فأصبحت الفرقة الجديدة ثاني فرقة كبيرة شبه محترفة ، ملبية لحاجة اعتملت في نفوس (مجموعة من الشبان المتطلعين الطموحين قد جذب افرادها وهج هذا السحر الغريب “المسرح” وجمعتهم رابطة الفكر والصدفة ) ، من طلبة معهد الفنون الجميلة وبعض العاملين في المسرح الجامعي كجماعة (جبر الخواطر) التي كانت تقدم على قاعة كلية الحقوق مشاهد تهريجية لا تخلو من نقدات لاذعة ذات محتوى اجتماعي . ثم بنت الفرقة مسرحها من الطين والاجر والخشب في مقر جمعية النداء الاجتماعي (سابقا) في وقت لم تكن هناك مسارح او قاعات مهيأة للعرض المسرحي متاحة للفرقة . وكان لقاؤها الاول مع الجمهور بفصول من (عطيل) لشكسبير، و(الطيب رغما عنه) و(المثري النبيل) لمولير . فصول من اعمال كلاسيكية معروفة وميل واضع للكوميديا استمرار لنهج لجماعة (جبر الخواطر) ولم تكن الامكانات المادية او المستلزمات الفنية متوفرة لتقديم اعمال كاملة . فكانت تلك المحاولات مجرد تقليد لواقع مسرحي متخلف . ثم قدمت الفرقة (عودة المهذب) و(ماكو شغل) للفنان يوسف العاني ، بالاشتراك مع الفنان شهاب القصب الذي اغتاله الزمن في الخامسة والعشرين .. فقد كان يبشر بطاقة موهوبة واصالة كوميدية في التأليف والتمثيل اثرت على العديد من الفنانين ومن بينهم العاني . بهذه الاعمال انتقلت الفرقة نقلة كبيرة في تقديم اعمال محلية مؤلفة وليست معدة او مترجمة . ثم قدمت (رأس الشليلة) التي سخر فيها العاني بسلاح الضحك من فساد وبيروقراطية موظفي السلطة الملكية . فاكتشفت السلطة مبكرا خطر الفرقة فأخذت تضيق عليها وتلغي حفلاتها . وكانت الضحية الاولى حفلة نادي السكك الحديد في آب 1953م . وبعد مضي عام تعرضت حفلة اخرى للمنع . ثم واجهت الفرقة الجمهور في كانون الثاني 1955م بمسرحيتي (تؤمر بيك) و(ماكو شغل) للعاني . وهما امتداد متطور لمسرحيات الفارس القصيرة . وتعرض اعضاء الفرقة للارهاب اسوة بما تعرضت له الحركة الوطنية . فقد كان المسرح مرتبطا بهذا الشكل او ذاك بالكفاح السياسي المعادي للاستعمار والرجعية . فاضطرت الفرقة الى ان تعود الى النبع ..  الى الجامعة والمدارس . فقدمت بعض اعمال العاني باسماء مؤلفين وهميين تحايلا على الرقابة التي اصبحت حاسة الشم لديها قوية ، مثل (ايراد ومصرف) التي ظهرت بأسم (محمد يونس) واخرجها الفنان (سامي عبدالحميد) ، في تشرين الاول عام 1957م مع مسرحية (الرجل الذي تزوج امرأة خرساء) لـ (اناتول فراش كارل) ، مسرحية مترجمة بقلم عراقي هو المرحوم سليم بطي ، ومن اخراج (سامي عبدالحميد) ايضا . كما قدمت (فلوس الدوة) و(لو بالسراجين لو بالظلمة) و(حرمل وحبة سودة) فيها نقد ساخر للتمايز الطبقي والتخلف الاجتماعي المتخلف . وعمدت الفرقة الى تقديم مسرحية عالمية مع مسرحية محلية كوسيلة ناجحة للتعريف بالمسرح العالمي ولرفع مستوى الذوق الفني . فقدمت (اغنية التم) لتشيخوف و(ست دراهم) للعاني في شباط 1956م ، من اخراج الفنان (ابراهيم جلال) – وسبق ان عرضت المسرحية الاخيرة في مايس – 1950م . وشهدت المسرحيتان الاخيرتان تطورا جديدا في وضع الفرقة ، والحركة المسرحية ، فبعد ان كانت العروض تستمر يوما او يومين ، عرضت المسرحيتان الاخيرتان اسبوعا كاملا مما يبرهن على حصول تطور في وعي الجمهور وجماهيرية الفرقة . وسحبت السلطة اجازة الفرقة في 16تشرين الثاني 1957م بحجة انها تعرض (الروايات التي تستهدف النيل من اوضاع البلاد السياسية والاجتماعية وبعدم مراعاتها لمقررات لجنة فحص الروايات التمثيلية ونظرا الى ان تصرفات هذه الفرقة تعتبر مضرة بالمصلحة العامة) ولانها (تقديم مسرحياتها كثيرا من المشاكل وتنبه الناس عليها وكثيرا ما تضع اللوم على الحكومة لانها المتسببة في افقار الشعب وحالته السيئة التي وصل اليها ) .
   تميزت الفرقة في السنوات الممتدة بين 1952- 1957م ، بتقديم الاعمال المحلية التي تعالج الهموم الاجتماعية في اطار من الكوميديا ، مغلفة في كثير من الاحيان برموز وايحاءات يستجيب لها الجمهور ، لم يعمد اليها المؤلف . تقدم في اطار بسيط من المستلزمات الفنية لضعف الامكانيات متماسكة تشدها مجموعة موحدة . تقاسم الاخراج فيها (ابراهيم جلال) و(سامي عبدالحميد) .
   بعد انقلاب 14 تموز 1958م ، تقدم الفنان (ابراهيم جلال) بطلب اجازة الفرقة مجددا ، فأجيزت في 15-10-1958م ، وتشكلت هيئتها الادارية من (ابراهيم جلال ) رئيسا ، و(يوسف العاني) سكرتيرا ، و(سامي عبدالحميد) محاسبا ، و(عبدالحميد قاسم) و(مجيد العزاوي) اعضاءا . وقدمت الفرقة عام 1958م (المقاتلون) ليحيى عبدالمجيد ، (جيان) من اخراج (سامي عبدالحميد) ، التزاما ودعما لقضية الثورة الجزائرية ، ومسرحية (اني امك يا شاكر) للعاني واخراج (ابراهيم جلال) تمجيدا لبطولة الام التي تتبع طريق ابنها المناضل . والمسرحيتان من المسرحيات السياسية الملتصقة بالقضايا الملتهبة المعاشة . في عام 1960م قدمت الفرقة اولى مسرحيات العاني الطويلة ، هي (اهلا بالحياة) من اخراج الفنان (عبدالواحد طه) ، رصد فيها العاني التطورات الجديدة في وعي الناس وعلاقاتهم الاجتماعية الجديدة ونظرتهم للحياة وتفاؤلهم بالمستقبل . وفي نفس السنة اعادت عرض (اني امك يا شاكر) و(ست دراهم) .
  كما عرضت (رسالة مفقودة) للكاتب الروماني (كارجيليه) واخراج الفنان (بهنام ميخائيل) . في عام 1961م خطت الفرقة خطوة جريئة بعودتها الجديدة الى (تشيخوف) لتقدم رائعته الصعبة (الخال فانيا) من اخراج (عبدالواحد طه) ، شكلت نقلة نوعية في الاخراج والتمثيل والانتاج . ووجهت الفرقة جزءا من نشاطها للاذاعة والتلفزيون فقدمت العديد من الاعمال الناجحة وسافرت الى البصرة فقدمت هناك (اني امك يا شاكر) و(تؤمر بيك) .
   للفترة ما بين 58- 1963م انتقلت الفرقة الى مرحلة اكثر تطورا عند تصديها لتقديم الاعمال الكبيرة كمسرحية (اهلا بالحياة) ذات الفصول الخمسة ، و(الخال فانيا) ذات الفصول الاربعة . تتطلب منها وقتا اطول في التدريب وقدرة اكبر على توظيف طاقات وعناصر عديدة . فعكس هذا التوجه تناميا في ثقة الفرقة بنفسها وبجمهورها . وقدمت كاتبا عراقيا جديدا هو (جيان) ، وعرفتنا بكاتب عالمي جديد هو (كارجيالة) ، ومخرجا جديدا هو (بهنام ميخائيل) ومخرجا ناجحا هو (عبدالواحد طه) . واعتمدت على اعادة عرض بعض مسرحياتها الناجحة ، والتوجه الى الاذاعة والتلفزيون كوسيلة ثانية وسريعة لدعم امكانياتها المادية وتقديم نفسها لجمهور اوسع من خلال الجهازين الجماهيريين لجذبه الى المسرح . كما واجهت جمهور البصرة .. فكانت الزيارة الاخيرة لتأسيس فرع الفرقة فيما بعد .
    اعيدت اجازة الفرقة في 13 حزيران عام 1965م بمبادرة من الفنان (خليل شوقي) تحت اسم (جماعة المسرح الحديث) ، وكان مؤسسوها (ابراهيم جلال) و(خليل شوقي) و(سامي تيلا) و(عبدالكريم عواد) و(فاروق فياض) و(فخري العقيدي) . وانضم عدد من الفنانين الشباب من بينهم (جماعة المسرح الحديث) ، فقدمت في شباط 1966م (مسرحية في القصر) لغيرنيك مولنار ، واخراج (محسن سعدون) ، وعرضت في نفس العام (فوانيس) لطه سالم ، واخراج (ابراهيم جلال) . وفي آذار 1967م عرضت (مسألة شرف) لعبد الجبار ولي ، واخراج (بدري حسون فريد) . وفي كانون الاول عرضت (صورة جديدة) للعاني ، واخراج (سامي عبدالحميد) ، وفي شباط من نفس العام سافرت الفرقة الى الكويت بالاتفاق مع فرقة (مسرح الخليج) فعرضت هناك (فوانيس) و(عقدة حمار) و(مسألة شرف) لقيت نجاحا كبيرا . فكانت السفرة لقاءا مثمرا وخروجا عن الحدود القطرية عرفت اشقائنا بنماذج ناجحة من مسرحنا غيرت الصورة المغلوطة عن امكانياتنا ، كما فاجأت بعض الفنانين العرب العاملين في الكويت . وفي مايس عام 1968م قدمت الفرقة مسرحية (المفتاح) للعاني واخراج (سامي عبدالحميد) .
   للسنوات المحصورة بين 65 – 1968م قدمت الفرقة خمسة نصوص محلية من مجموع ستة اعمال وهي نسبة كبيرة . من بين المحلية ثلاثة كتاب جدد على الفرقة هم (عادل كاظم) و(طه سالم) و(عبدالجبار ولي) تنحو اعمالهم منحى اجتماعيا بمعالجة جيدة . تميزت من بينها (فوانيس) بشكلها المتطور المحبوك ، بذلك فقد زاحم هؤلاء الكتاب نجم الفرقة الوحيد الفنان العاني الذي قدم عملا متميزا رغم تحفظي على مضمونه الذي عرض في ظرف سياسي دقيق ، ونال الفنان بدري ، فرصة الاخراج الوحيدة داخل الفرقة ، واختفي الفنان (عبدالواحد طه) كمخرج ناجح . وظهر مخرج جديد هو (محسن سعدون) . تميزت هذه السنوات بعرض اعمال ذات نوعية عالية في الانتاج ، واحتلال النص المحلي مرتبته الجديرة والواجبة اذ لم يظهر غير عمل عالمي واحد للفرقة .
   في كانون الثاني من عام 1969م قدمت الفرقة مسرحية (تموز يقرع الناقوس) لعادل كاظم ، واخراج (سامي عبدالحميد) ، و(حكاية الرجل الذي صار كلبا) لدراكون ، ترجمة واخراج الفنان (قاسم محمد) ، و(البستوكة) تعريق (عبدالجبار عباس) عن (الجرة) لبيراند يللو ، واخراج (سامي عبدالحميد) . وقدمت في تشرين الثاني (النخلة والجيران) اعداد واخراج (قاسم محمد) عن رواية (غائب طعمة فرمان) . وفي آذار قدمت لاول مرة تجربة (قراءات شعرية) لشعراء المقاومة بطريقة مسرحية من اعداد واخراج (قاسم محمد) .  وفي نيسان قدمت (الخرابة) للعاني ، واخراج (سامي عبدالحميد) . وفي تشرين الاول عرضت (الخيط) لعادل كاظم ، واخراج (سامي عبدالحميد) . و(في انتظار كودو) ترجمها الى العالمية (جبرا ابراهيم جبرا) واخرجها (سامي عبدالحميد) شهد هذا العام قيام الفرقة باستئجار مسرح بغداد ، وبهذا اصبح للفرقة مكانها الصحيح والثابت ومختبرها العملي جعلها تخطو خطوات واثقة وواسعة الى الامام . في آذار عام 1971م قدمت الفرقة (حكاية صديقنا بانجيتو) للكاتب الارجنتيني دراكون ، ترجمة (قاسم محمد) واخراج (صلاح القصب) ، ومسرحية (ولاية وبعير) تعريق (قاسم محمد) عن (الفيل يا ملك الزمان) لسعد الله ونوس ، واخراج (عبدالواحد طه) سافرت بها الفرقة الى كركوك وعرضت لمدة ثلاثة ايام . وبمناسبة الاحتفال بيوم المسرح العالمي قدمت الفرقة الى البصرة . في كانون الثاني من عام 1972م قدمت الفرقة (لويش ؟ وشلون؟ والمن؟ ) من اقتباسش العاني ، واخراج (روميو يوسف) عن مسرحية (الدروب) لخايتوف ، ومسرحية (حكاية مرض اسنان) لدراكون ، ترجمة (قاسم محمد) واخراج (سامي عبدالحميد) . وفي آذار قدمت (انا ضمير المتكلم) اعداد واخراج (قاسم محمد) . وقدمتها في مهرجان دمشق المسرحي . ثم قدمت (نفوس) تعريق (قاسم محمد) عن (البرجوازيون) لغوركي ومن اخراجه ايضا . وفي مايس من عام 1973م وبمناسبة احتفالات يوم المسرح العالمي قدمت مسرحية ذات شخصية واحدة هي (الصوت الانساني) لكوكتو ، واخراج (روميو يوسف) . وفي مايس قدمت تجربة (هاملت عربيا) لشكسبير ، واخراج(سامي عبدالحميد) ، في كانون الثاني من عام 1974م قدمت (بغداد الازل بين الجد والهزل) من اعداد واخراج (قاسم محمد) . وفي مايس عرضت مسرحيتي (جد عنوانا لهذه التمثيلية ايها المتفرج) و(جيفارا عاد افتحوا الابواب) لجليل القيشلي ، واخراج (سامي عبدالحميد) ، في اذار من عام 1975م قدمت (الحلم) اعداد (قاسم محمد) عن رواية (من يحب الفقر) لعبد العزيز هلال ، واخراج (خليل شوقي) . واشتركت الفرقة في نصف الشهر الثقافي بالجزائر بمسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل) ، وفي كانون الاول قدمت (القربان) لغائب طعمة فرمان ، واخراج (فاروق فياض) .
  ظهرت خلال اعوام 68- 1965م اكثر من ظاهرة جديدة . فقد شهدت الاعوام ما بين 68 – 1972م صعودا وتطورا في مستوى نجاحات الفرقة من حيث الكم والنوع ، من حيث التأليف والاخراج . فقد عرفتنا الفرقة لاول مرة بثلاثية الكاتب الارجنتيني دراكون (ذات الشكل الطليعي) بترجمة للفنان قاسم الذي حقق بعد الانضمام ضربته الناجحة في (النخلة والجيران) كاعداد واخراج . بالمقابل خسرت الفرقة بخروج الفنان الكبير (ابراهيم جلال) . وقدمت في كل عام عملا محليا ناجحا . وشهدت هذه الاعوام بروز ظاهرة الاعداد والتعريق حيث قدمت الفرقة احد عشر عملا من مجموع (22) عملا تشكل نسبة 50% ، لعب الفنان (قاسم محمد) الدور الاكبر في تكريس هذه الظاهرة المضرة حيث نفذ ستة منها وقد جذبت هذه الموضة الفنان العاني لنفس الشرك دون مبرر وهو المؤلف الذي طرح نفسه مبدعا اصيلا وليس متسلقا على اعمال الاخرين .. لعلها كانت الخطيئة الوحيدة الاخيرة . شهدت هذه الاعوام المنتهية بـ (75) نزول مخرجين جدد مثل (قاسم محمد) الذي نال حصة الاسد وحقق فيها نجاحا باهرا . فقد اخرج ستة عروض . واخرج (روميو يوسف) عملين ، واخرج كل من (صلاح القصب) و(خليل شوقي) و(فاروق فياض) عملا واحدا . نجحت من بينها اعمال قاسم وصلاح القصب ، وكانت الاعمال الباقية دون مستوى نجاحات الفرقة . وعاد الفنان (عبدالواحد طه) بعد غياب طويل عودة ناجحة . وقدمت الفرقة عملين ضعيفين في يوم المسرح العالمي عام 1971و1973م . وسافرت الفرقة الى محافظتي البصرة وكركوك كما سافرت الى الخارج فمثلت مسرحنا في دمشق والجزائر بجدارة واقتدار ، اكسبتها هذه السفرات خبرة طيبة في الاحتكاك بجمهور مسرحي جديد والتعرف على اعمال وتجارب المسرح العربي . وخاضت الفرقة اكثر من تجربة جديدة على صعيد الاعداد والاخراج . فقدمت (قراءات شعرية) و(هاملت عربيا) و(بغداد الازل بين الجد والهزل) و(النخلة والجيران) ، الملاحظة الاساسية على مجمل اعمال الفرقة انها لم تعالج واقعنا المحلي المعاش باحتياجاته الملحة ولا حتى في حدود المرحلة ، وكثيرا ما طوت عقودا طويلة من التاريخ لتعود الى الماضي دون ربط او تلميح واضح بالحاضر . الا ان اعمالها صبت في مجرى تعميق الوعي الاجتماعي العام وليس الخاص . لقد بدأت الفرقة منذ عام 1973م تشهد هبوطا في مستوى وحجم اعمالها فيما عدا مسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل) .
   من خلال استقراء مسيرة الفرقة منذ عام 1952م يمكن تحديد ابرز الخصائص الايجابية والسلبية في ماضي وحاضر فرقة احتلت عن جدارة تحولت الى مدرسة لتخريج الكادر المتقدم وحقل لاكثر من تجرية مسرحية وشاهد على صقل موهبة اكثر من كاتب .. طرحت اعمالا ذات توجهات تقدمية . لقد اكتنزت الفرقة خبرة عميقة نتيجة استمرارها مكانة مؤثرة ومحترمة في حركتنا المسرحية وحياتنا الثقافية . وتواصلها . وبفعل التخطيط والبرمجة . ولها قواعد عملها وتقاليدها الخاصة . تعرف جيدا كيفية توثيق العلاقات بالوسط الاعلامي والفني والثقافي مما يسهل لها عرض نفسها للجمهور ، بالمقابل جاءت هذه العلاقة – في احايين كثيرة – على حساب تقييم ومراقبة ونقد اعمالها بموضوعية . ولا يستبعد ان تكون بعض الكتابات قد صدرت من روح المجاملة وحسن العلاقة او بتكليف من الفرقة او باقلام عدد من اعضائها ! وتحاول الفرقة ان توازن في ارتباطها بنوعين من الجمهور ، جمهور اعتيادي ، وجمهور مثقف .. فتحاذر من السقوط في السهولة والسطحية والابتذال وتقديم اعمالها في مستوى فني مقبول ، كما تحاذر من الاقتحام الجريء للنص واساليب الاخراج ، الا انها منذ عام 1973م افلت من بين يديها حل هذه المعادلة ، فأخذت تطفو على السطح بعض اخلاق وممارسات المسرح التجاري ، كالتسامح في استقبال الممثلين بالتصفيق او الدخول المتأخر الى المسرح او التدخين او التعهليق بصوت مسموع او اصطحاب الاطفال وطغيان التهريج . مع ان الفرقة تجيد استقطاب الفنانين الكفوئين الى صفوفها .. وكانت نجاحاتها غير معزولة عن تظافر وانشداد هذه الطاقات .. فقد غاب من الفرقة الفنانون (سعدي السماك) و(اسماعيل الشيخلي) و(فاضل القزاز) و(ضياء العزاوي) . وتوقفت صلات اخرين كالفنان المبدع (كاظم حيدر) والمؤلف الموسيقي (طارق حسون فريد) و(حسين قدوري) . كما انها تجيد اخفاء غسيلها عن انظار الاخرين ، الا انها عانت من صراعات واختلافات كثيرة . لا انكر ان بعضها نتيجة تطلعات شخصية الا ان خروج (ابراهيم جلال) و(طه سالم) و(سامي تيلا) و(سعدي يونس) واخرين يشكل خسارة للفرقة ولما كانت الفرقة على ابواب انهاء ربع قرن من حياتها فهي مطالبة بأن تعيد النظر في مجمل وضعها الحالي لتستخلص الدروس التي تكون ذخيرتها الى مستقبل زاهر يحتاجه مسرحنا وقطرنا .
القربان والميلودراما الفاقعة
ملاحظات عن عرض يومي 21 و23 كانون الاول 1975م
 
   من اية زاوية نتعامل مع (القربان) بعد ان اجريت لها اربع عمليات قيصرية ؟ بدأت بصاحب المبادرة (ياسين النصير) ، ومرت بالمخرج (سامي عبدالحميد) ، والاب الشرعي (غائب طعمة فرمان) كاتب الرواية . لم تقنع كل هذه العمليات التي اجتمعت تحت سقفها قدرات نقدية واخراجية وروائية مخرج المسرحية الفنان (فاروق فياض) فقام هو الاخر باستخدام مشرطه . تغرينا رحلة التيه هذه بحثا عن الوليد باجراء مقارنة بين الرواية والاعداد الثلاثي والاخراج . لكننا آثرنا ان نسد بوابة هذه الشهية مكتفين بعقد جلسة اعتراف واستماع لنبض النص الذي يدق جرس الانذار بحريق التهم الكثير ولم يبق الا على القليل .. وهذه البقايا يتحمل مسؤوليتها المعد الاول لانه من يعلن براءته منه ، والمخرج . فهو يعكس وعيا وممارسة معينة .. كما انها تمخضت عن نتائج معينة تتطلب وجود ضوابط واسس محدودة ومتفق عليها ، المؤلف او المعد الذي يعيش تحت نفس السقف المسرحي وبين المخرج الذي يجوس داخل النص ويرفع الحجاب عن رموزه ودلالاته .
   تأتي الاجابة عن السؤال من خلال كشف هوية هذه المسرحية – الفلتة ! وتلك محاولة عسيرة فرضتها عليا مسرحية بلا هوية .. فقد استعارت استعارة سيئة شروطا متنافرة من ينابيع مختلفة ودون توازن فهي لم تستطع ان تطرح نفسها كمسرحية (فكرة) اساسية ، فظهرت تتداعى حوله سائر الاحداث والصراعات والايماءات بالسهر والحمى ! من بين هذه الافكار التي ارادها المخرج (ان المجتمع المتخلف لا يبنيه غير العلم) وهي فكرة مثقلة بالعمومية ، يعوزها التحديد الدقيق . تثير في الوجه اكثر من سؤال ، من بينها : اي علم نريد؟ واي مجتمع نبني؟ الاجابة عليهما تشكل حدا فاصلا بين نوعين من العلم في صباح الميكانيكي (ماهر جيجان) ، وشخصية المحامية حامدة التي منحها المخرج اجازة دائمية غيبتها عن المسرح كحضور مادي ، وظلت كالشبح تظهر من خلال تأثيرها الطفيف على خالها القصاب العصامي الذي دفع من شبابه ومستقبله ليجعلها في مركز اجتماعي مرموق . وتتجسد او يمكن ان تتجسد في شخصية المعلم المتقاعد (عدنان يوسف) الذي ظهر هزءة الجميع فأهين الشخصية وأهين معه العلم الذي يمثله الفكري ، وضيق الافق لدبش (خليل شوقي) وعبدالله (عبدالجبار عباس) وياسر (قاسم محمد) . فضل المخرج ان يمسك بتلابيب صباح حتى كاد يخنقه ، فأظهره لنا شخصية ضعيفة لم تحتل موقعا او حجما بارزا في الصراع غير واعية لشخصية ياسر ، تفضل الالتفاف على المجابهة ، وللنص دخل في رسم الشخصية بهذا الاطار . ومن بين الافكار الاخرى التي ظهرت محنية الظهر بسبب تكلس عمودها الفقري (ان الصراع بين الجيل القديم في دبش بارهابه وتسلطه واستغلاله ، ويتمثل الجديد في صباح ومظلومة (حميده حميد) بفتوته وتفاؤله وانفتاحه وقيمه واخلاقه . لكن هذا الجديد لم ينتصر نتيجة الارادة الميزة ، بل جاءت بعد مقتل دبش على يد ياسر ومختار المضمد (يوسف العاني) ، وفكرة الصراع بين جيلين فكرة فضفاضة تحتمل الكثير من الالتباس والتشوش اذا لم تأخذ بنظر الاعتبار النموذج الاجتماعي الصاعد الذي يمثله الجديد ، والنموذج الاجتماعي الزائل تاريخيا الذي يمثله القديم . وفكرة اخرى يمكن انتشالها من بين الركام (ان الاستغلال والملكية الفردية تؤديان الى الشر) يتمثل الاستغلال في امتلاك دبش لوسائل الربح : المقهى والعقارات ، نموذج طفيلي لا يلد غير استغلال جديد اكثر تطورا وذكاءا .. وهذا الاستغلال يمص دم ياسر وعبدالله ويهين مختارا ويقهر مظلومة ويدوس زنوبة (ناهدة الرماح) ويعادي آخرين فيدفع بالمضمد وياسر لقتل دبش ، ويدفع عبدالله لقتل ياسر كما يؤدي الى تهديم عقله ويفضي الى فرز للقوى .. ويحدد كل طرف موقفه . ويهيج التطلعات المريضة عند ياسر وحسن العلوان (علي ياس) وآخرين بدرجات متفاوتة . وفكرة رابعة هي اسوأ جميع ما ظهر نالت من التركيز غير المقصود اكثر مما يستحقه ، تقول تقول (ان المجنون يقدم نفسه قربانا ليضيء الطريق امام العقلاء) ! وتتجسد وتتأكد الفكرة في شخصية زنوبة التي بدأت بها المسرحية واختتمت . فقد اوحت لنا حركة الاستهلاك عند صب النفط على نفسها وعند بحثها عن علبة الكبريت ثم اعقبها تعتيم في الانارة . فأوحت الحركة والانارة بأن زنوبة قد احرقت نفسها فعلا ، لانهما عملتا مع خيال المتفرج الذي يصل الى الفعل حتى وان لم يسجد اذا اعطيناه ايماءة صغيرة . والغريب ان المخرج لم يكن يقصد هذا ، كما اكد لي اثناء حواري معه . رغم ان مونولوج زنوبة فيه ما يثبت العكس ، فهي تقول : (اشلون عرس هذا ؟ عرس بالظلمة صباح ومظلومة يعرسون بالظلمة .. ابدا .. ابدا آني اصيرلهم شمعة ، لازم كل الناس يعرسون) “1” ، وفي المشهد الاخير يتأكد هذا في قولها : (عرس بالظلمة مايصير اريد ضوا.. ضوا .. وين الفانوس .. الضوا .. عرس بالظلمة مايصير .. اخاف . وين الفانوس .. الضوا .. اريد ضوا لعرسي صرت فانوس . تعال حساني شوف صرت فانوس . تعالي مظلومة .. تعال ياسر .. تعالوا لكم شوفوني . صرت فانوس لكل اليعرسون) “2” ، كما يوميء المشهد الاخير تكنيك كتابي – اخراجي بأن المسرحية تبدأ من حيث انتهت . بدليل تشابه حركته ونتيجته مع المشهد الاول ، ولكون وفاة ام زنوبة قد حدثت بين ثنايا المسرحية (لوحة 5 ، ص 59 ، من نص المخرج) ان الفكرة القائلة بأن المجنون هو الذي ينير درب الاعراس والافراح فكرة غريبة لا يمكن ان تجد استجابة معقولة عند العقلاء !
   لو اجرينا مسحا للافكار التي خرج بها المشاهدون لامكن العثور على قائمة طويلة من افكار جديدة ومتنوعة .. تعطي بالمقابل فرصا متنوعة لاساليب ومعالجات اخراجية مختلفة . ولو مضينا في محاولتنا لتشخيص هذا النوع من الكتابة لخرجنا بنفي آخر يقول بأن (القربان) ليست مسرحية (شخصية رئيسة) فقد انزرعت على جسدها اكثر من شخصية تقاسمت بالقسطاس المبين اهتمام المعدين والمخرج . كشخصية دبش وزنوبة ومظلومة وياسر وعبدالله ، وعلى هامسها شخصيات ثانوية . تدور جميعها داخل عجلة من العلاقات المتصادمة والمؤتلفة ، الغامضة الواضحة ، الغريبة والاعتيادية ، السطحية والضحلة . لم يتوضح خلالها خط او تيار معين تنتظم فيه .. ظهرت كانما تعكس جوا خياليا وليس فكرة ما او انموذجا لشخصية ما . والمسرحية ليست (رمزية) خالصة وان كان فيها اكثر من رمز لم يعمقه الاعداد وانفرط من بين اصابع المخرج .فدبش رمز البرجوازية الغبية المنهارة امام التطور الذي تحتمه طبيعة الحياة محاصرة بقوى العمال وعوامل انهيارها وتصدعها الداخلي المرض ومظلومة . وصباح رمز الجيل الجديد المعبر عن الوجه الجديد للمجتمع والذي لم يستطع ان يفرضه نفسه . ومظلومه رمز المرأة الحبيسة .. يحررها العلم من قيود العبودية البرجوازية بعد موتها فتكتسب ثقة كبيرة بنفسها وقدراتها وتتشوق للمستقبل والفرح .والزورخانة رمز لساحة الصراع ، لم يدخلها اصحاب المصلحة الحقيقية في الصراع وتركوا للغرباء حرية دخولها او التفرج عليها ، وظلوا هم على الهامش . بعد ان امسكنا بالنفي الثالث وفي الجيب امكانية نفي آخر بقدر تنوع المدارس والاتجاهات ، يبقى ان نريح انفسنا والاخرين لنقول انها نوع من الميلودراما الاجتماعية الفاقعة التي تعرض بيئة اجتماعية شعبية ، ذكر منهاج المسرحية ان زمنها يرجع الى الاربعينات ولم يظهر في النص الاخير ما يدلل على ذلك ولم يثبته الاخراج بدرجة حاسمة . فاليافطة التي تعلن عن تأسيس فرقة خليل للموسيقى الشعبية عام 1939م لا تجمد الزمن بل تشير الى استمراره الى ما بعد سنة التأسيس . من هنا فان تحفظنا يكون واردا ومقبولا حول بعض الجمل التي ظهرت ووجدت استجابة معينة من جمهور الفرقة الذي قد يفسر انفعال بها يفعل تراكمات غير واعية لا تقصد المسرحية احياءها لانها تؤدي الى نتيجة رجعية .
   لقد عكس ديكور الفنان المبدع (كاظم حيدر) بأمانة جو المحلات الشعبية البغدادية القديمة : الشناشيل وطرز الشبابيك والابواب والاعمدة ، ووظف بنجاح المساحة الصغيرة لمسرح بغداد استخداما ضاعف من حجمها الحقيقي ، فقد قسم المسرح الى قسمين رئيسيين في الجانب الايسر منها بيت دبش تعلو خلفيته الحانة ، وفي الجانب الايمن مقهى دبش يعلو خلفيتها بيت زنوبة . ويتوسط الجانبين زقاق المحلة ، وفي مقدمة المسرح الزورخانة .. كل هذا الجو رسم ببساطة في الخطوط وتوظيف جيد للملحقات . نجح الفنان حيدر في كل ذلك ما عدا بيت زنوبة ، فقد حجبته الشناشيل والشبابيك من مشاهدي يسار القاعة ، وما عدا الشباك الذي يؤطر مكان جلوس دبش في المقهى ، فقد كان بحاجة الى تركيز وعناية اكبر ليميز ويكون اطارا معبرا مع كرسي دبش كرمز . 
  لو قمنا بقراءة الصيغة الاخيرة للعرض لرصدنا اكثر من عطب في النص والاخراج . فقد تجمعت لدينا حزمة كبيرة من الملاحظات التي رسبت العمل الى اسفل بدلا من ان ترفعه الى اعلى . تقتطف هنا بعضا منها . فالنص بفصاله الاخير ظهر كثوب فضفاض ادخل فيه قسرا هيكل انسان مصاب بفقر الدم ، ونفخته الريح فبدا اوسع من حقيقته . فهناك مشاهد عديدة يمكن استئصالها دون اسف كأي ورم دون ان يتخلخل بناء النص بل يكثفه ويزيد من تأثيره الدرامي .
    كمشهد اغتصاب حساني (ماهر كاظم) لزنوبة . لقد ظهر لنا بلسانه المدلوق ولوية عنقه وانفراج يديه كأبله ، ومشهد اعتداء عبدالله على المعلم الذي سكر فجأة بعد صيام ربع قرن ! فأخذ يتأرجح بمبالغة في الزقاق كسفينة بلا شراع ، فهدم بذلك جوانب هامة من الصورة الممتعة واللطيفة التي قدمها لنا باقتدار في المشاهد السابقة ، ومشهد النقاش الحاج ناجي (عبدالقادر رحيم) والمرأة (رياض محمد) الذي اضاف طبقة كثيفة من التهريج الى اصباغ الجو البهلواني الصاخب ، ومشهد موت ام زنوبة الذي انتزع ضحكنا غصبا رغم تراجيديته . وهناك ترهل في مونولوج زنوبة ومونولوج عبدالله ، لا يمكن التخلص منه الا بريجيم قاس . وهناك لا معقولية في حوار مظلومة وزنوبة عن سر الام المتوفاة التي كانت ترسل مظلومة وهي طفلة لتقديم الطعام لشحاذ مجهول . وظهرت مشاهد عديدة معطلة لاسباب يعود بعضها الى (النص) لعدم اشباع الحوار ولطغيان طابعه الادبي فلم يمنح الشخوص ابعادا درامية محددة ، ولم يزجها داخل علاقات منطقية ، او يصعد انفعالاتها وصراعاتها . فياسر يدفع مختارا لقتل دبش ثم يهينه في المقهى حين يرمي له نقودا ليشتري بها طعاما كما يرمي الشبعان البطر قطعة عظم لكلب . وياسر يخشى حسن العلوان مع انه لم يفعل شيئا سوى حضور تفويض شفوي بالوصاية على مظلومة ، ويرتفع صراخ عبدالله وينهار منطفئا بسرعة ويتحول الى انسان يتأرجح بين الجنون والاجرام دون تمهيد او بناء متدرج .. يعتدي على المعلم ويقتل ياسرا ويطق بأحاجي الدراويش . عن الاسماء التي اذا قبلت معاني اخرى وذلك بدفع من شخصية غامضة هي حسن العلوان لا تظهر غير ثلاث مرات ، احداها عند موت دبش وفي التساؤل عن احقيته في الوصاية ، وثالثهما بعد مقتل ياسر ! والنوع الاخر من العطل يعود الى (الاخراج) بمعالجته التقليدية ونواحي قصوره . فقد غابت عن نظر المخرج ثلمات عديدة لم يسارع بردمها فهدمت اجزاء من الصرح الذي اراد تشييده . خيمت على الجو العام سحابة كثيبة مثقلة بالهم والسواد اوصلت لنا حياة الفقر والقهر والصراعات في محلة شعبية كما يمكن الارتفاع كما يمكن الارتفاع بها واعتبارها نموذجا اكبر من محلة .. عن طريق الديكور وملابس (نبيل كوني) وانارة (ماهر كاظم) ولكن حدث داخل هذا الجو ما يناقضه او يلغيه فقد اضحكنا مشهدا وفاة دبش ووفاة ام زنوبة . وشيء اخر مناقض لهذا الجو التقديم المتعمد لشخصيات كوميدية او حركات كوميدية مفتعلة بنسب متفاوتة ، بل وتعمد تغيير حوار المسرحية او تفسيره بشكل معاكس . كالمعلم ومختار وسلمان .. التي اجتازت بجدارة حاجز الضحك الجاد النظيف الى التهريج المتعمد . ولكن جاء تبديل انارة وملحقات بيت دبش والمقهى بعد وفاة دبش متوافقا مع التبديل الجديد في حياة ووضع مظلومة وياسر وزنوبة .. فكان هذا التبديل كدخول شمس خجولة متسللة بعد طول غياب .
   لقد غابت اية انتباهة في الاستفادة من كرسي دبش مع ما يتضمن من قدر كبير من الايحاء والتعبير ، انه رمز هيمنة دبش على المقهى ودليل تبدل المواقع بعد موته فقد سيطر عليه ياسر ومن بعده عبدالله . فتعامل معه الممثلون بصورة اعتيادية جدا . لم يصل العمل بصيغته الاخيرة الى مرحلة ناضجة ، تؤكد هذه الحقيقة بقاء ردود افعال رواد المقهى والزورخانة في المشاهد المهمة باردة ، كمشهد التقاء صباح بياسر ، ومشهد اصطدام صباح بدبش ومشهد ياسر وصباح داخل الزورخانة ، ومشهد لقاء صباح بياسر ، ومشهد الاعلان عن قرب زواج دبش . او ظلت ردود الافعال معدومة كمشهد جلوس ياسر على الكرسي بعد وفاة دبش دون تؤثر الحركة على عبدالله الذي ينظر اليه كخصم ومغتصب لحق ومكانة لا يملكها . وكان تنغيم الممثلين في المشهد الاول ممطوطا خصوصا (قاسم محمد) و(يوسف العاني) . ولم تتوضح حركات خروج ودخول بعض الشخوص ، كأن تدخل زنوبة الى الداخل لشراء (الهريسة) ثن لا نراها خارجة رغم استمرار المشهد ، او تخرج من الغرفة والمقصود مجيئها من الخارج ، او تدخل مظلومة لمناداة زنوبة التي نراها قد دخلت . كما لم ينتبه جيدا لعلاقة الممثلين بالملابس والملحقات . فياسر يدخل الحانة و(الوزرة) في يده ، ويدخل سلمان القصاب المقهى واضعا سكينين في حزامه بدون غلاف . ويعتدي عبدالله على المعلم ملثم الوجه و(الوزرة) تحيط بخصره . ولم يراع في مشاهد اخرى التركز على الممثل الذي يقوم بالفعل المسرحي كمشهد مجيء ياسر لتسليم النقود لمظلومة فسمر المخرج زنوبة في العمق رغم معاناتها لتجاهل ياسر لها . وكان مشهد الصراع بين ياسر وحسن العلوان على شكل مثلث بأضلاع كبيرة يتطلب العكس لوجود نمو وتصاعد في الصراع مما يتطلب تضييق انفراج اضلاع المثلث . وظهرت اكثر من حادثة حجب على المسرح . والجديد في اخراج الفنان (فاروق فياض) تقطيع الانارة اثناء التبدلات التي تحصل بعد مقتل دبش داخل البيت والمقهى . فتوحي حركة الانارة بأن المشهدين يحدثان في وقت واحد اضافة الى تجميد حركة الممثلين ، كان المفروض بدء الحركة من النقطة التي انتهت اليها بعد التعتيم زيادة في التأكيد ، وكان اقتباس المخرج لبعض الجمل المثبوتة في النص ، وجعل الممثلين يلقونها في المشهد الاول داخل بقع ضوئية ، يشير الى نوعية العلاقات بين هذه الشخوص . 
   لقد كانت تحت تصرف المخرج قدرات تمثيلية عالية لم يسعفه النص بصيغته الاخيرة في استغلالها . كـ (ناهدة الرماح) بأدائها الرائع لشخصية زنوبة المجنونة ، و(فاضل خليل) الذي وفق في تجسيد شخصية القصاب فأظهر تلازما وتأقلما بين داخل الشخصية البغدادية وخارجها ، بسخريتها المميزة وحركات الاطراف والوقفة الخاصة . وحميدة حمد التي تبشر بمستقبل طيب وقيمة جديدة جديرة بالحرص والاعتناء ، و(عبدالجبار عباس) وقدرته الطبيعية والعفوية في التعامل مع الشخصيات المحبوبة والمكروهة . و(يوسف العاني) المتمكن في شد المتفرج بأسلوبه الفكه الذي تحول الى قالب متكرر ينتظره الجمهور فيقابله بالتصفيق ، و(قاسم محمد) الذي بدا غريبا عن الشخصية الشعبية ياسر ، باردا في ادائه مفتقرا لاية حيوية ، سريعا في الصمود والهبوط اثناء انفعاله . وهناك اكثر من طاقة ظلت معطلة .
  واخيرا .. فـ(القربان) اشارة الى الرجوع المؤسف للوراء لفرقة المسرح الفني الحديث . وتجربة غير ناجحة في استمرار نهج تقديم النصوص المعدة على حساب النصوص المؤلفة التي كانت تشكل احدى خصائص الفرقة التي رفدت الحركة المسرحية بأعمال محلية ناجحة ، حيث مرت بها اكثر من طاقة وموهبة كتابية . والى تعتيم افكار مسرحية تلقي حزمة ضوء على واقعنا القريب . وتمهد الطريق لفتح كوى جديدة نحو الحاضر والمستقبل ، هذه الوضعية الفاشلة التي عاشتها الفرقة من غياب الاسس الصحيحة واحسن العلاقات بين صاحب النص والمخرج والفرقة التي تحدد حقوق ومسؤولية كل طرف تشكل جزءا من ظاهرة مضرة بمسيرة حركتنا المسرحية ، تتطلب تدارسا جادا على شتى المستويات تبدأ بالفرقة وتنتهي بالجهات العليا من اجل انهاض المسرح من كبوته ومن اجل ان تتساوق خطواته مع التبدلات التي تنشدها الثورة ويشق طريقه نحو عقل ووجدان انساننا الجديد المتسلح بالوعي والثقافة والذوق الفني الرفيع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• مجلة (الاقلام) ، العدد(5) و(6) ، السنة 11/شباط /1976م.
1.  (اي عرس هذا؟ عرس بالظلمة ! صباح ومظلومة يعرسون بالظلمة .. ابدا .. ابدا انا اصير لهم شمعة ، يجب ان يعرس كل الناس) .
2. (عرس بالظلمة .. لا .. اريد ضوء .. عرس بالظلمة لا يصح .. اخاف .. اين الفانوس .. الضوء .. اريد ضوء لعرسي .. صرت فانوسا .. تعال حساني لترى .. صرت فانوسا . تعالي مظلومة .. تعال ياسر .. تعالوا كلكم شاهدوني .. صرت فانوسا لكل من يعرس ) .