من المفارقات الحادة في المشهد السياسي في العراق ما بعد 2003 هو النفاق السياسي وغياب المشروع الوطني لبناء الدولة العراقية لدى معظم القوى السياسية, فقد تراوحت مواقف القوى السياسية بين مرحب ومبارك ومصاحب للأحتلال الامريكي, وبين رافض له بخجل وحياء مبتذل, وقد تهافتت اغلب القوى السياسية والاسلاموية السياسية والأثنية على تقاسم كعكة العراق ووضعه على طريق الضعف والتفكك المتواصل والانهيار لمؤسسات الدولة ثم اغراقه في الفساد الاداري والمالي الذي أفلس الدولة العراقية اليوم مما سيدفعها للأقتراض الخارجي والداخلي. ثم لاحقا ممارسة النفاق بمطالبة القوات الامريكية والاجنبية بالخروج من العراق دون قيد او شرط ودون ادنى مسؤولية تقع على عاتق المحتل الذي ساهم الى جانب القوى السياسة بألحاق الأذى والخراب في حاضر العراق ومستقبله, وهذه المطالبات والتي هي مشروعة لمن يدعي بها من القوى الوطنية المخلصة, وليست من يطالب بها تحت ضغوطات واجندة اقليمية واستجابة لمزاج متهور وانفعالات الساعة والتي قد تؤدي بالعراق الى ما لا يحمد عقباه في ظل ضعفه الحالي والتهديدات الاقليمية والارهاب العالمي المتمثل بداعش واخواتها.
ولعل ابرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف, التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة, الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية, خيانة الأمانة, الإخلاف في المواعيد, التحكم في الانفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق, يحاول المنافق الاهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي . وهناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي وتأكيد خطورته, فعلى مستوى الإدانة, عندما تسأل شخصا, ما هو الفرق بين الكلب والمنافق فأن الجواب يكون : أن ذيل الكلب في أعلى ” مؤخرته “, وذيل المنافق في أعلى مقدمته “لسانه “, أما على مستوى خطورة المنافق فيقال : أن أفعى لسعت ” منافقا ” فتسممت…وماتت.
وهذا النوع من النفاق هو نفاق “المؤمن الفاسد”, ولا نعني به حصرا فقط على المؤمن الذي يعتنق إحدى الديانات السماوية أو غير السماوية ويبتعد عنها في الممارسة العملية, بل تشمل أيضا كل ما يعتنقه الفرد من أفكار ومعتقدات وإيديولوجيات سياسية ذات طبيعة أخلاقية واجتماعية واقتصادية ايجابية إلى حد ما استنادا إلى معاييرها المعلنة في الخطاب النظري, ولكنه في الممارسة العملية والحياتية يتصرف ويصوغ سلوكياته الفردية وحتى السياسية بالضد من هذا الخطاب, فيتحول هذا الفرد إلى ” مؤمن فاسد ” يعث في الأرض فسادا وظلما وجورا, متسلحا بتفسيرات ذاتية ومصلحيه للخطاب المعلن لإشباع رغباته الشخصية بما فيها القتل وفساد الأخلاق وحرمان الآخرين من حقوقهم, مستندا إلى سلطة ما ” دينية, أو سياسية, أو اجتماعية أو مالية وغيرها ” كغطاء تسمح له بذلك, ولذلك فأن المؤمن الفاسد ليست فقط من خرج عن دينه, وان كان الخروج عن الدين هو الفساد الأعظم كما هو شائع شعبيا, وبهذا قد يكون المؤمن الفاسد هو من المتدينين بلباس الدين وطوائفه, أو من دعاة القومية أو الوطنية وغيرها من الانتماءات.
وينخرط ” المؤمن الفاسد ” في منظومة الفساد المجتمعية: الاقتصادية, والإدارية والمالية, والاجتماعية, والأخلاقية, والثقافية وحتى الدينية وغيرها من منظومات الفساد المختلفة, عبر مختلف أعراض ومظاهر الفساد وأساليبه وألوانه المختلفة, من محسوبية ومنسوبيه, وبيروقراطية إدارية, واستغلال المنصب العام, والغش والتزوير, والنصب والتحايل وسرقة المال العام, والفساد الأخلاقي والقيمي وتغير معالم الثقافة الوطنية ورموزها والتجاوز على الرموز الدينية والإخلال بسمعتها.
أما دولة “المؤمن الفاسد” إن كانت بلباس ديني أو قومي أو “وطني” عام, فهي دولة المعتقلات والسجون والاستبداد ومصادرة الحريات الشخصية والعامة على طريق استعباد مواطنيها وتحطيم نفسيا تهم وإذلالهم, وتجري هذه الممارسات بواجهات مختلفة ومبررات وهمية, منها على سبيل المثال, إن هناك خطر خارجي قادم يهدد الأمن القومي والوطني مما يستدعي “تعبئة الجهود ومصادرة الحريات” لأنها عائق أمام ذلك, أو أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على اتجاهاتها لا يحتمل تعدد الآراء والتنوع السياسي وبالتالي فأن القمع والحد من المعارضة السياسية هو من مؤشرات نجاح التنمية وملازم لها وضمانتها الأكيدة.
ودولة المؤمن الفاسد في العراق ليست لها ” مناطق عفة محصنة ” فهي تضرب كل القطاعات دون رحمة, وهي أشبه بفيروس في جسد بلا مناعة, وهذا الفيروس يتسلل إلى نواة الخلية ( نظام الحكم ومؤسساته وقطاعاته بدون استثناء) فيصيغ برامجها طبقا لاحتياجاته ثم يتسلل إلى المجتمع فينشر المرض وتتغير البرامج كلها طبقا للبرنامج الفيروسي. أن فيروس دولة ” المؤمن الفاسد ” يفسد عملية التقدم والتطور الاجتماعي المخطط , حيث يفتت المؤسسات اللازمة لذلك ويحولها إلى مؤسسات فئوية ترعى فئة معينة من المجتمع كما هو الحال في نظام المحاصصات الطائفية والعرقية ويعيق تشكيل مؤسسات بحثية وعلمية مستقلة خاصة بذلك؛ كما أن هذا الفيروس يعطل العملية السياسية ويعيق جهود التنمية والأعمار من خلال تعطيله لدور المعارضة الحقيقية باعتبارها تلعب دور الرقيب على الحكومة في الدول الديمقراطية المستقرة, إلا إن هذا الفيروس الذي يتكئ على خلفية نظام المحاصصة الطائفية أو التوافقية يلغي دور المعارضة الحقيقية, لأن هذه ” المعارضة ” لها يدا في الحكومة تحجم عن دورها الرقابي, وبالتالي يكون الصراع من اجل إفشال الحكومة وليست تقويم عملها, ويسعى الطرف الحاكم أيضا إلى التمادي وتعطيل العملية السياسية وعدم السماح للتداول السلس والسلمي للسلطة, ويدعي كل طرف هو الأفضل على خلفية التعصب والتعنت الديني والطائفي والعرقي.
أن دولة ” المؤمن الفاسد ” تشكل بيئة مواتية لفيروس الفساد بألوانه المختلفة وللمحسوبية والمنسوبية والولاء الحزبي الضيق, ففي دولة المحاصصة الطائفية والتوافقية كالعراق حيث يقف عالميا في قائمة الدول التي تعاني من الفساد الإداري والمالي, فأن هذا النظام هو أفضل وسيلة لترعرع ونمو الفساد, وان كان في ظاهره يبدو وكأنه ينصر أبناء طائفته ولكنه في الواقع يبقي أبناء الطائفة في فقر مدقع وتبقي الامتيازات حكرا على زعماء الطائفة وأبنائهم أو رؤساء أحزابها.
أن نظام المحاصصة الطائفية والتوافقية باعتباره نموذجا لدولة ” المؤمن الفاسد ” يشكل عوامل طرد لاستبعاد الكفاءات العلمية والوطنية, حيث يستند في شكلياته إلى الطائفة كمعيار للانتقاء والولاء وليست معايير النزاهة والكفاءة العلمية بعيدا عن الانتماءات الضيقة, وبهذا يحرم المجتمع من الانتفاع بمواهب أفراده المختلفة والتي لا صلة لها بالانتماء الطائفي.كما يخل نظام المحاصصة بالسلم الأهلي والاجتماعي, ويخل بمبدأ المساواة بين المواطنين في الوظائف العامة ويضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة من خلال تخندقه الطائفي في أطره الجغرافية, كما يضعف سياسة الدولة ووحدتها في الخارج كما يتعارض هذا النظام مع حقوق الإنسان وصيانتها والمنصوص عليها في المواثيق الدولية.
يعيش العراق حالة من الترقب بعد أن أعتقل جهاز مكافحة الإرهاب العراقي عناصر تابعة لمليشيات في العاصمة بغداد، فيما صار يعرف بـ”حادثة الدورة” نسبة إلى المنطقة التي جرى فيها الاعتقال. وكانت قيادة العمليات المشتركة أعلنت في بيان الجمعة الماضي أن جهاز مكافحة الإرهاب ألقى القبض على “14 متهما” باستهداف مواقع عسكرية ومدنية بالصواريخ. ومباشرة بعد تسريب خبر عملية الاعتقال، انتشر المئات من عناصر ميليشيا كتائب حزب الله في شوارع بغداد وجابوا بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة الأحياء القريبة من المنطقة الخضراء وفقا لوسائل الأعلام المختلفة. وانتشرت مقاطع فيديو تظهر عناصر حزب الله بعجلات مختلفة يتجولون في العاصمة ويرددون هتافات منددة برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ومتوعدة بالانتقام منه. كما تمكن بعض عناصر هذه المجموعة من الدخول للمنطقة الخضراء “بعجلات حكومية وبدون موافقات رسمية متجهة نحو مقرات حكومية من داخل المنطقة الخضراء وخارجها وتقربت من أحد مقار جهاز مكافحة الارهاب داخل المنطقة الخضراء” في بغداد، كما أفاد البيان العسكري العراقي.
وقد سبقت هذه الاحداث خطاب للسيد مصطفى الكاظمي متوعدا بحصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح للمليشيات المنفلتة لفرض اجندتها على الشارع والسياسة العراقية, وعدم السماح بالمساس بهيبة الدولة وأمنها, الى جانب تطوير القطاع الأمني واصلاحه, ومكافحة الفساد, والتصدي للأزمة الصحية المتمثلة في جائحة كورونا( كوفيد ـ 19), العمل على اجراء انتخابات برلمانية مبكرة, صون السيادة العراقية, الارتقاء بالمسائلة والعدالة, واطلاق حوار وطني, تعزيز عودة النازحين الى مناطقهم الأصلية وتعزيز الاقتصاد.
لقد كان الهجوم على هذه المجموعة المسلحة بموجب مذكرة قضائية وفقا لقانون الارهاب هو عملية جس نبض قام بها الكاظمي لأستتقراء ردود الافعال لدى القوى السياسية ومدى صدق مواقفها في مطالبتها بتكريس دولة القانون والقضاء والحد من الاستهتار المسلح, وهذه هي بمثابة عينة سلوكية مصغرة اقدمت الحكومة العراقية على فحصها كي ترى ماذا يحصل لو اقدم الكاظمي على ملفات اكبر واعظم من الهجوم على مخابئ صاروخية.
وكانت ردود الافعال مختلفة, ففي الوقت الذي فرح فيه الشارع العراقي وقطاعات واسعة من الشعب العراقي معلنين تأييدهم لخطوة رئيس الوزراء في البدء بخطوات جدية لأن الشعب أذاق الأمريين من السلاح المنفلت وقد دفع ضحيته اكثر من 700 متظاهر في احتجاجات اكتوبر وآلاف الجرحى والمعوقين, جاءت ردود افعال اغلب السياسيين والكتل السياسية البرلمانية والاحزاب انطلاقا من طيبعتها الازدواجية المنافقة بعدم قناعتها بالعملية العسكرية التي قام بها جهاز مكافحة الارهاب, بل شككوا بالتوقيت وربطوها اشتراطا بملفات اخرى.
فالأحزاب غير المسلحة صمتت خوفا من دولة المليشيات العميقة, والاحزاب الاخرى المسلحة وذات المليشيات اعلنت رفضها العملية وتوعدت بمصطفى الكاظمي سوء, كما ان الكتل الأسلاموية الكبيرة والتي تدعو شكليا الى هيبة الدولة ونزع سلاح المجاميع السائبة سكتت دون تأييد للعملية العسكرية ولأنها متحابة في الخفاء مع المليشيات وحاضنة لها, والبعض الآخر لجأ الى تسفيه العمليه واعتبارها صراع تصفية حساب بين جهاز مكافحة الارهاب والحشد, ويتخوف البعض من تصاعد شعبية مصطفى الكاظمي على خلفية الخطوات التي يقوم بها وبالتالي فأن تعزيز هيبة الدولة يشكل تهديدا للقوى التي لايمكنها العيش في ظل نظام وسلطة القانون, وقد اعتقد البعض ان خطوة الكاظمي هذه هي استعراضية ومادة للأستهلاك الأعلامي, فأذا ما اراد الكاظمي الأقدام على معالجة كافة الملفات فعليه اولا الأخذ بأجماع برلماني يشكل الأسلام السياسي الشيعي اساسه, وهذا امر صعب لأن هناك كتل غالبة فيه متهمة بالفساد والسلاح والانفلات المجتمعي. ونقول هنا للحق أن كتل سياسية صغيره دعمت واعلنت عن وقوفها الى جانب خطوات الكاظمي.
خطوة الكاظمي الأستباقية هذه هي مؤشر لمدى صعوبة اقدامه على خطوات اخرى بما فيها مكافحة الفساد طبعا وستكشر الكثير من القوى السياسية عن انيابها في وقوفها علنية ضد محاربة الفساد ورموزه وضد نزع سلاح المليشيات السائبة وضد سلطة الدولة وهيبتها, فالقوى السياسية او الكتل البرلمانية والتي تتمتع بشرعية شعبية تقل عن 20% من الشعب لا يمكن لها ان تمثل طموحات الشعب في برنامجه للأصلاح والتقدم الاجتماعي وبناء دولة المواطنة, وبالتالي نرى ان الاصلاح الجذري للعملية السياسية عبر انتخابات مبكرة واقرار قانون انتخابات جديد وتشكيل مفوضية انتخابات نزيهه تشكل المدخل اللازم والضروري للبدأ في الأصلاح, واعتقد ان السيد الكاظمي يحتاج الى تكاتف من الشعب والمنتفضين معه ولو مرحليا لحين البدأ بأنجاز مهمته الصعبة جدا.