19 ديسمبر، 2024 7:02 م

فرضية نسيان الماضي

فرضية نسيان الماضي

برزت في الاونة الاخيرة اطروحة نسيان الماضي والتطلع الى المستقبل، والمهم بناء المستقبل وليس حقوق الماضي، وجاءت هذه الاطروحة في سياق حملة مركزة اعدت لها مراكز ابحاث امريكية وغربية باحكام وحاولت القفز على حقائق الماضي، وقامت بعملية خلط في المفاهيم واستثمار اوضاع خاصة لتضليل العامة وأخذ الناس بعيداً عن الحقائق الى الامنيات والوعود بجنة الرفاه والنمو الاقتصادي في منطقة هي في الاصل مستودع  القوة الاقتصادية ومخزن لمصادر الطاقة بارخص الاثمان واقل تكاليف الانتاج… كل ذلك يحتم ان تكون منطقتنا لو تدار بطريقة علمية منطقة التقدم الاقتصادي والرفاه وامتلاك التكنولوجيا والقوة السياسية كذلك.
ومع ذلك، فان منطقتنا مصنفة مع دول الجنوب المتخلفة، وها هي المؤسسات العالمية والقوى التي تدعمها وتوجهها تحاول ان ترسم لهذه المنطقة مستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد تجريدها من ماضيها وكل مصادر قوتها..
ان التصور الامريكي/ الغربي الموجه صهيونياً لمستقبل العالم ومنه منطقتنا العربية والاسلامية، يشتمل على نسيان حقائق الماضي والانخراط في اساليب المستقبل.
والسؤال الاستراتيجي: هل يمكن عملياً نسيان الماضي وفق حقائق ووقائع التاريخ؟ وهل يمكن قطع صلة أية مجتمع بما فيه؟ وهل يمكن تغيير الحقائق؟
لدحض تلك الاطروحات نقول: اذا تصورنا اننا امام جديد لا علاقة له بما سبق، اذن فاننا نحتاج الى مراجعة قوانين الحياة ذاتها، ان تصور عالم جديد ينشأ في استقلال كامل لما قبله، وهم مخالف لحقائق الاشياء. ان هناك عوامل حاكمة في التطور الانساني مهما تغيرت العصور ومهما بلغ بعد وعمق تقلباتها.
ان الذين يتبنون مشروع اسقاط الماضي يعتمدون على فرضية ان التكنولوجيا تسقط الجغرافية وبالتالي تسقط الحقائق، فالتكنولوجيا تلغي المسافات لكن هذا لا يعني بالضرورة الغاء الحقائق. فلو سافرت من واشنطن الى بغداد تقطع المسافة بساعات بدل اسابيع لكنك حين تغادر واشنطن تتركها وهي واشنطن وحين تصل بغداد تصلها وهي بغداد، اي ان الحقائق لها قدرة على البقاء تتعدى قدرة التكنولوجيا على تغيير الوسائل…
من واجبنا ان ندرك ان الحقائق التاريخية انسانية وبالتالي فانها شأن كل ما هو انساني قابلة للتطور والارتقاء، لكن ذلك عملية بالغة التعقيد تتصل باحوال المجتمعات وثقافاتها ونوعية الحياة السياسية فيها وغير ذلك كثير.
هناك محاولات للقفز على الماضي من جانب واحد، واطروحة باب التكنولوجيا ايضا اسقطت الايديولوجيا، وهذا ما تسوقه السياسة الامريكية على بعض الجهات.. وردنا على هذه الاطروحة الفرضية بقولنا: ينسى القائلون بذلك المعنى الاصيل للايديولوجيا باعتبارها رؤية معرفية للكون وللدنيا وللمجتمع وللانسان، تتبلور في صياغات تعطي لنفسها مواقف ووسائل تحسبها محققة لطموحاتها في شتى مجالات الحياة، فالبشرية باستمرار بحاجة الى صياغة رؤاها ومواقفها، فكيف يمكن ان تسقط الايديولوجيا؟
ان الحقائق الكونية والوقائع التاريخية والشرائع السماوية والاجتهادات الانسانية، تقول باستحالة صحة اطروحة – تجاوز الماضي وحقائقه- ونسيانه تماماً وبكليته لصالح مستقبل آت. ان ذلك مخالف للمنهجية العلمية وتطور المعرفة الانسانية، وان الامم حين تحاول ان توجد لها مشروعاً تبحث في ماضيها وحاضرها وتجربتها ومعارفها، علاوة على البحث عما لدى الاخرين لتشكل لها رؤية للكون والحياة والانسان تنطلق منها لبناء المستقبل المنشود مبنياً على حقائق الماضي وحقوق الشعب مستفيداً من وسائل الحاضر ومتغيراته لتثبيت الحقائق والحقوق.
ولدينا امثلة – فما عرف بالنظام العالمي الجديد الذي تولت تسويقه امريكا هو نفسه النظام الذي تولته بريطانيا بعد الثورة الصناعية في اوروبا لفترة قرنين من الزمان. ويقابله تماماً ما تتطلع اليه الامة العربية والاسلامية من خلال المشروع النهضوي العربي والاسلامي، وان المشروع الصهيوني – اسرائيل الكبرى- و – النظام الشرق اوسطي – و – السوق الشرق اوسطية – هي عناوين جديدة لنظام قديم، يتجدد العنوان او يتغير.. اما المضمون فيبقى ضمن رؤية كل امة او دولة او مجموعة، وامام هذه الوقائع والحقائق: هل يمكن ان تنسى الامة العربية ماضيها وحقوقها؟ ولماذا يطلب من الامة العربية والاسلامية ذلك مع مخالفته للموضوعية وطبائع الاشياء؟ ولماذا لم ينسى اليهود ماضيهم؟ ولماذا تظطر بعض الدول الاوروبية اصدار تشريعات تحرم نسيان الماضي؟ في حين يطلب من امتنا وحدها اسقاط ايديولوجيتها ونسيان ماضيها، والتخلص من رؤية خاصة بها، علماً بان هناك حقيقة تقول – ان عالمية الحقائق مخصصة وعالمية الوسائل مشاع-.
يستنتج مما سبق، انه لا يمكن نسيان الماضي واسقاط الايديولوجيا، وتجاوز الحقوق وفق منطق الاشياء وحقائق الوجود ومن منطلق العقيدة والوقائع التاريخية والظروف التي نواجه، فلنحذر تلك الاطروحات والفرضيات وندرس الواقع بعملية وموضوعية في اطار المشروع العربي والاسلامي، وفي ظل الوقائع التاريخية والتحولات العالمية لتشارك في سباق الماراثون العالمي نحو التقدم وقيادة البشرية لما فيه خير الجميع، وادراك ابعاد المخاطر التي تحيط بالمستقبل من خلال احاطتها بالحاضر، ومحاولة اسقاط الماضي، ومع ذلك يتم كل ذلك من جانب واحد لصالح القوي المتغطرس، من خلال حملات تضليلية لابد ان ننتبه اليها جيداً، وتلك مهمة الجميع لبناء المستقبل على اسس ذاتية وتصور ذاتي، بعيداً عن الهيمنة والتضليل وقلب الحقائق ولحظة الضعف الآنية.
ان المطلوب منا ان نكون قلب العالم، فنحن قلبه بالجغرافيا والاقتصاد ومصادر الطاقة، وكنا قلبه بالسياسة وبالتاريخ يوماً، ولابد ان تكون محاولتنا الجديدة ان نكون قلبه بالتاريخ والسياسة، كما اننا قلبه بالجغرافية لان التاريخ تراكم وتركيز السياسة، ولن نتخلى عن هذا الدور ابداً امام المحاولات المتكررة تحت عناوين ودعاوى وشعارات متعددة.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات