23 ديسمبر، 2024 12:52 م

فرضية (التاريخ يعيد نفسه)

فرضية (التاريخ يعيد نفسه)

في الاثر- تُنسب فكرة او اطروحة (التاريخ يعيد نفسه) الى المؤرخ اليوناني ثوسيد يديس thucy dides المتوفي بحدود العام 400 قبل الميلاد. الفكرة الاطروحة بنصها  الدارج هذا، فيعود او يرقى الى العام 1885 للميلاد.
وشبيه به قول العرب “ما اشبه الليلة بالبارحة”، الذي يضرب به في تشابه اللاحق بالسابق، وقول ابي العلاء المعري في “اللزوميات”:
من ساءه سبب او هاله عجب
    فلي ثمانون عاما لا ارى عجبا
الدهر كالدهر والايام واحدة
والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
ولقد يبدو لنا ان مفهوم التاريخ في هذا الكلام هو حدثي تتابعي بحيث تتكرر حادثة بعينها في الظرف (ص) اذ هو الظرف (س) نفسه عندما حصلت الحادثة الاولى، بقولنا ضمنا بتوارد الاحداث. وبالرجوع الى الحدث بمنظور المنطق والفلسفة فلا يعيده اهلهما الى العقل او الى المادة انما هو ظاهرة تسبق التصور او تفرض التغير في الشكل مع بقاء الجوهر ثابتا، اما نوعه فعلى مالا يحصى من الصيغ والانماط، يهمنا فيها ومنها هنا الاحداث السياسية عبر التاريخ، وتوصيف الحدث بانه سياسي مسألة هي الاخرى فيها تأمل، اذ قد نعيدها الى الاجتماع او الى علم النفس ولا خطأ في ذلك مع بقاء تأثيرها سياسيا او وضوح غايتها السياسية، وعند تقليص المفهوم السياسي الى مفهوم ادق، فاننا نستخلص منه: الدولي والاقليمي، والقارئ والوطني المحلي والقومي… الخ. فاذا تكرر الحدث في هذه الدائرة وبالاشتراطات الموضوعية الاولى نفسها فان التاريخ الحدثي يعيد نفسه، والاعارة هنا تصير تلقائية او عفوية وانسيابية احيانا وبعيدة عن العنف اوسفك الدماء، كتنصيب الملوك وراثيا او انتخاب الرؤساء دستوريا، الا ان اي خرق لهذا النظام ثم تكرار هذا الخرق بالصورة نفسها يصير هو المقصود بل هو موضوع متابعتنا في الواقع مع الاخذ بالحسبان نسبة التناظر او حجم التقارب في كل تكرار.
ففي اغتيال ابراهام لنكولن، ثم اغتيال جون كيندي، في الولايات المتحدة الامريكية، هناك رؤية خاصة في تكرار التاريخ نفسه او تكرار الحدث نفسه في سياق التاريخ الواحد، التاريخ السياسي الامريكي، فاذا اضفنا اغتيال رئيس امريكي ثالث فان نسبة ترجيح تكرار التاريخ نفسه تزداد حتى ليصير بامكان اشتقاق فرضية تتعلق بشروط او ظروف التكرار وتوقع ذلك مستقبلا، اي اننا طبقنا في هذا السياق منهج الاستقراء Lnduction ولاضير  ثم اردفناه بالاستنباط Deduction ولا خطأ، هنا يصح القول ان ما يبدو صحيحا في قول ثوسيديس اليوناني يمكن وصفه على شكل قانون عام اذا توافرت لدينا مجموعة فرضيات بالاستقراء والاستنباط عبر نمطية الاحداث التاريخية وليس الانصراف الى الاغتيال السياسي فقط.
فالفرضية التي يمكن اشتقاقها من تاريخ الحروب عن حتمية الحرب او عدم حتميتها يمكن اضافتها الى فرضية الاغتيال السياسي، ثم تتبع ذلك بفرضية عن سقوط الدول من الداخل ولنا ان نستبدل كلمة الدول هنا بالحضارات. وبذلك نستفيد من ابن خلدون حتى اخرهم ارنولد توينبي البريطاني بوضع فرضية مشتركة واحدة لهذه التكرارية تضاف الى فرضيتي الاغتيال السياسي واندلاع الحرب..
اما صياغة القانون المقترح فانها ليست متاحة بسهولة كما يبدو لنا من هذا العرض الميسر، الا انها لا تفتقر ابدا الى مجال الصعوبة القصوى او الاستحالة، واما الفائدة من ذلك فتحويل الاقوال المثلية الى قوانين موضوعية، ولربما يعترض سائل، وهو على حق في ظني، ان مقولة ثوسيد يديس (التاريخ يعيد نفسه) هي بحد ذاتها قانون، متاثرا بالمفهوم العام او الدارج للتاريخ بوجهيه الذرائعي والانجازي معا، اذ هنا نستطيع ان نمتحن هذا القانون بمجموعة اسئلة في مجال واحد، فاذا اتفق الجواب عليها جميعا في كل مكان وزمان صارت المقولة قانونا بحق وتركت منزلة الاقوال الماثورة او المثلية التي فيها من الخطأ بقدر ما فيها من الصواب احيانا او بمتغيرات (كذا) احيانا. وبذلك يمكن القياس في التوقعات المستقبلية في اي مكان او زمان بنجاح.
والآن لنأخذ قرار الرئيس الامريكي هاري ترومان بضرب اليابان بقنبلتين ذريتين في المرحلة الاخيرة من الحرب العالمية الثانية ونجعله مثلا للمدارسة هنا او في في مناظرة مستقلة ضمن التصورات الآتية: هل سبق هذا القرار تجربة مماثلة القت بخبرتها على دماغ الرئيس الامريكي اتخاذ هذا القرار؟ اي هل كان هناك (زمكان) حديثا يماثل الظروف التي احاطت بهاري ترومان فاضطرته الى توقيع قراره التاريخي المتعسف ؟ ثم نأخذ السؤال المقابل، هل هناك احتمالات توفر ظروفا مماثلة للظروف التي احاطت بالرئيس الامريكي ستضطر رئيسا اخر الى اتخاذ القرار المماثل وفي (زمكان) اخر في المستقبل المنظور او البعيد؟
في الواقع ان الاجابة على السؤال الاول القبلي هو النفي المطلق، والاجابة على السؤال الثاني البعدي متعذر عمليا الا انه مرجح للمناقشة المنطقية تماما..
[email protected]