23 ديسمبر، 2024 6:01 ص

فرصة التسوية الوطنية قد لا تتكرر

فرصة التسوية الوطنية قد لا تتكرر

التسوية الوطنية او التاريخية سواء كانت سياسية ام مجتمعية حديث المجالس بين النخب السياسية والمهتمين بها، ولكن هذه التسوية ليس لها ذات الصدى بين الناس بل ان فئات واسعة منهم عندما تفتح النقاش بشأنها يعبرون عن فقدانهم الأمل بحدوثها ويعيشون حالة من الخيبة من الطبقة الحاكمة ، ولا يثقون  بانها تقود البلاد الى الاستقرار وبناء نظام مدني يضمن الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمواطنين.
هذه الحالة من فقدان الثقة لها ما يبررهم، فهم يسوقون حججاً معتبرة التوقف عندها ضرورة، بل انها الاساس في تغير التسوية نحو الوجهة الجدية لقطاف ثمارها، القضية الاولى التي تثار ان التسوية التي يطرح السياسيون مبادئها في وسائل الاعلام تنطلق من المذهبية والاثنية، أي تطرح على اساس طائفي ((سنة وشيعة)) وعلى اساس اثني ((كوردي)) هذا التقسيم هو ذاته منذ بدء العملية السياسية ولم يتم التوافق لغاية الان على مشروع بناء الدولة، وتوقفت العملية السياسية بعد القسمة الاولى للمناصب والمنافع وباتت تراوح في مكانها لا تنتج حلولاً للمشاكل والتحديات وفشلت النخبة الحاكمة في بناء دولة قوية حتى على اساس الدستور الذي هو بحد ذاته اشكال ما بعد من اشكال.
وتنطلق التسوية بحسب العارفين بها من تكوين مرجعية للشيعة والسنة، وفشلت الشيعة الذين لهم تاريخ طويل بهذا  الشأن قبل ان يتلاشى رنين صوت المبشرين بالتسوية في الاذان، اذ اعلنت اطراف مهمة وفاعلة ومؤثرة انها غير معنية بها واشترط اخرى شروطاً جديدة، فيما استمر الاخرون بالادعاء ان القيادات التي صرحت وجهرت بالضد منها قد وافقت عليها في الغرف المظلمة.
اما السنة، ونحن نتحدث هنا للاسف بهذا التقسيم الطائفي لتوضيح المواقف، فهم غير موحدين اطلاقاً فمنهم سنة السلطة، وسنة المالكي، وسنة المعارضة وسنة داعش وما الى ذلك، والاهم من ذلك ليس لهم على مر التاريخ مرجعية مثلما هو الحال لدى الطرف الذي يكون مقابلهم.
وبين هذا وذاك، هناك تيار ليبرالي واسع لا يجد له تمثيلاً في التسوية وليس مدعواً لها، على ما يبدو لانه لا يمتلك اجنحة مسلحة تدافع عن رؤاه، وليس له الا الاحتماء بالقانون الغائب. هذا التيار الذي يرفض المحاصصة والفساد ويسعى الى التخلص منهما جذرياً وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء الدولة المدنية.
ان هذه الاطراف تنطلق من المحاصصة والولاءات الفرعية الاخرى لبناء الدولة المدنية، ولكنها لا تخبرنا كيف تحقق ذلك، وهي تختلف على وظيفة من الدرجة الخامسة في سلم الوظائف وتتصارع على ان هناك بعض الموظفين من الطائفة والمذهب الفلاني اكثر مما يزعمون انهم يمثلون الناس يجادلون بشأن الضامن للاتفاق، فالتجربة مع الامم المتحدة غير مشجعة اطلاقاً، ونحن نسمع يومياً عن ضمانها لقضايا اقل من هذه في ساحات الصراع بالمنطقة والعالم، ولكن لا احد يرد عليها، بل ان مجموعة من الانفار المسلحين لا يتجاوزون العشرات تستجدي رضاءهم، بما في ذلك اصبحت تدفع رشى لهم، لعلهم يلتزمون اياماً بوقف اطلاق النار.. فضلاً عن ذلك الناس يقولون هل نريد اتفاقات ترعاها الامم المتحدة مثل الاتفاقات اللبنانية او الفلسطينية مع اسرائيل.
هذا غيض من فيض النقاشات التي تتضمن افكاراً حقيقية للتسوية او تمهد لها، وذلك من خلال تشريع بعض القوانين التي مضت عليها سنوات في ادراج مجلس النواب او تسمية اعضاء لبعض الهيئات التي تم اقرارها كمجلس الخدمة الاتحادي، او تسمية اقطاب الفساد وتفعيل القضاء بشأن المجالس التحقيقية والنكبات، والاكثر اهمية بعد هزيمة داعش هو محاسبة من ساعد باعطاء نصف العراق اليه.
الواقع ان الحوارات تلاحظ غياب الحكومة صاحبة الشأن في الجدية في ضمها الى التسوية ما دام يشارك فيها طيف واسع من المشاركين بالعملية السياسية، وذلك عن طريق اصلاح اخطائها وتنفيذ برنامجها وحل المشكلات التي تسببت بها وازالة التمييز بين المواطنين والعمل على الاصلاح الشامل وانهاء ملفات الاتهامات لبعض الشخصيات والمواطنين التي لم يأخذها المنصف على محمل الجد.
طبعاً المصالحة الوطنية ام أي التسميات سميت فأنها مطلب ملح وضروري لانعاش الأمل في بناء عراق مستقر ديمقراطي اتحادي، ولاسيما ان القوى السياسية الوطنية تمتلك تجارب وخزيناً من الاتفاقات والوثائق والبيانات في هذا الشأن، أي انها لا تنطلق من الصفر وماعليها سوى التمهيد لهذه التسوية بما يعزز الثقة بين اطرافها ويوضح نياتها الصافية لتحقيقها وليس نحرها كما هو الحال الان ، ونبذ  وتعرية كل من يحاول ان يحرق بنودها حتى قسماً قبل ان يطلع عليها، الطريق الى هذه التسويات بعد هذا الصراع غير العادل ليس معبداً ما تزال الالغام في بحره.. مرة اخرى مطلوب من كل طرف مشارك في الحكم وخارجه ان يثبت جديته في التعاطي معها ويعمل بالملموس على ابداء التنازلات المتبادلة من دون ان ينتظر من الطرف المقابل ان يقايضه بما يقدم، وخصوصاً الحكومة الى بعضها البعض والى من هو خارجها.
ولا بد ان يدرك الفرقاء جميعاً ان التسوية موجهة ليس الى ما تم اقراره وما هو ناضج وحق للمواطنين ومتوافق عليه وقد عرقل في التطبيق ، وانما الى العقد الشائكة والمختلف عليها بين الشركاء والمتخاصمين معهم. فليس من المعقول ان يكون احد بنود التسوية اعادة النازحين الى بيوتهم او اطلاق سراح الابرياء، وانما نتوجه الى تسوية القوانين المعرقلة والتصالح مع الواقفين او المعارضين للعملية السياسية.
هذه فرصة ايضاً يمكن تسميتها تاريخية قد لا تتكرر ثانية، وبالتالي علينا ان نمنع ان تكون بلادنا في مهب الرياح والعواصف الداخلية والخارجية واطالة معاناة شعبنا والاستمرار في حرمانه من اقامة دولته المدنية التي تتسع لابنائه كافة ، ولابد من الانتباه الى المختبئين في حصان طرواده الذين باسم التسوية يهدمونها .