أمر الله عز وجل بعض أنبيائه ممن وجد لهم عزماً في أن يذهبوا للطاغي، فيدعوه للحق، يلقوا عليه الحجة بالقول والمواجهة بما هو عليه، وحينما لا ينتصح، يكون على الداعي العمل بدعوته بما آتاه الله تعالى من قوة وسلطان، وبما يترتب عليه مصلحة الناس المظلومين.
قول رسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم (أفضلُ الجهادِ كلمةُ حقٍ عِندَ سُلطانٍ جائِر) والحكمة في ذلك عظيمة. كلمة الحق تعني التصريح بأن ما يفعله الطاغي خطأ يوجب التغيير، فيعرف حدوده، وأن هناك من لا يخافه، وبالتالي قد يتعض وربما يتغير ولو شيء ما فيه، فيكون وحده ومن تبعه في وقته هم من يتحملون مسؤولية وعاقبة أعمالهم دون غيرهم. ومن ذا الذي يفعل، فجهاد الجائرين عمل لا يقدر عليه غير الفرسان،
أمرُ مواجهة الظالمين والمعتدين بالتأكيد ليس مُناطاً بالأنبياء والرسل فحسب، بل بكل من ذاق مرارة الظلم الذي وقع عليه أو على غيره، ووعى ضرورة أن ينتصر للكرامة، ووجد في نفسه الإرادة والعزيمة ليحدث التغيير بما أمكنه. ومواجهة الطغاة ليس بالأمر الهين، بل، ربما أصعب ما يواجهه إنسان في حياته سلطان طاغٍ جائر لا يعرف الرحمة، لا يعي شر أعماله، وما يرتكبه بحق الخلق، فيعيث بالأرض فساداً، تقتيلاً وحرقاً وتخريبا. لقد شهد التاريخ الكثير من هؤلاء كما شهد ممن واجه أمثالهم بقوة ومباشرة، أو بعد تحفظ أو مسايرة حتى حين، عندما لا يكون للمواجه أنصار، فـ(لا يُكَلِفُ الله نَفْساً إلا وسْعهَا). ولكن، لكثرة الخائفين، وقلة المنتصرين للحق، لطالما تكون المواجهة متأخرة.
الطغاة عادة يستعملون قوتهم لقهر وإذلال من يتسلطون عليهم، ويُسخرون عمالهم التابعين الذين يطمحون بدورها لسلطة ما بأي ثمن، أو على الأقل لينالوا رضا الطاغي فيأمنوا شره. أما العامة من الناس فيكونوا مغلوبين على أمرهم، فإن واجهوا الطاغي هلكوا، وإن سكتوا عاشوا بالذل وأخيرا هلكوا. فما الخيار إذا إلا أهونُ الأمرين، السكوت والرضوخ بالعيش بإذلال أفضل من الموت بقسوة يسبقه شعور رهيب بالخوف. الناس لهم أن يختاروا بين ذانيك الخيارين ولا غيرهما. لذا تبقى الشعوب والأمم على حالها تتجرع الأمَر لتضمن بقاءها أطول فترة ممكنة على قيد الحياة، مع شعور كل فرد مسلوب الحقوق والإرادة بالنقمة على الطاغي وتمنيه هلاكهه، فتراه يحلم بذاك اليوم الذي يكون هو الفارس المخلص الذي يتصدى، فيقف ليقول للحاكم الجائر كلمة حق. فينتظر، ويطول الإنتظار. ولكن لا تتحقق الآمال بالتمني والإنتظار فحسب. وعلى هذه الحال يبقى حتى يأتي الغوث، ولكن كيف ومتى، غالباً ما يكون بعد فوات الأوان، بعد الخسائر الكبيرة، وبعد أن يكون الطغاة قد عاشوا عمرهم طولاً وعرضاً متنعمين بأقوات الشعوب، متلذذين بتعذيبهم دون أن يقف أحد بوجههم ليقول إنكم ظلمة، حتى يهلكهم الله بأمرٍ منه. ومن بعد، يأتي الناقمون ليأخذوا بثأرهم، ولكن ممن بعد أن يكون الطاغي قد ولى.
تنتظر الشعوب والأمم أمراً ما ليحدث فيهم التغيير، وعندما يحدث، يظهر الحالمون، ويظهر المدعون، يظهر حينها الفرسان! طبعاً المزيفون. يظهر من يدعي أنه كان قد فعل وكان.. ويأخذ دوره الذي نسيه أو تناساه خوفاً ذلك الحين، بل ربما كان أول الفارين من الجور للنجاة بنفسه. ولو حصل أن عاد عصر الطغيان، لفر كما في الأولى. بل وأكثر، إن مثل هؤلاء من تظهر نزعاته الإنتقامية بعد التخلص من الظالم، لينتقم ممن لا ذنب لهم سوى أنهم ينتسبون لذاك، أو كان آباؤهم قد تبعوه وهم يجهلون. أو ليدعي له حقاً قد كان ليأخذه، وممن، من عانوا من قبل الظلم واستلاب الحقوق، ليزيد في الطين بلة. فأية فروسية وأية بطولة في النقمة على ما مضى، والثأر من المسلوب، والتفاخر بفروسية كانت في أصلها وهما. أما الفروسية، ففي الشجاعة والإقدام. وقد قيل إن خفت فلا تفعل وإن فعلت فلا تخف، والفرسان لا يخافون، الفرسان لديهم الحلم، والإيمان بالتغيير، لديهم الإرادة والعزيمة، هم يقولون ويفعلون بقدر ما آمنوا وعرفوا من الحق. أما إدعاء الفروسية بلا عمل وبعد فوات الآوان، فما هي إلا أضغاث أحلام.