24 أبريل، 2024 1:02 م
Search
Close this search box.

فردية المتعلم ومناهج التعليم

Facebook
Twitter
LinkedIn

تستقبل الجامعات كل عام الطلبة ممن تم قبولهم وتوزيعهم في الكليات والأقسام المناسبة كل حسب معدله الدراسي والمدعم أحياناً برغبته في التخصص الذي يريد. كما يرتادها في كل حين العديد من الباحثين وممن رغبوا في المعرفة. فالجامعة هي المؤسسة التي تستهدف في مرتاديها فضلاً عن الرغبة الحقيقية لطلب العلم، بث الوعي الثقافي فيهم وتتأمل في مخرجاتها من تلك الفئة أن يتمكنوا من تطبيق ما اكتسبوا ميدانياً فيسهموا في بناء مجتمعهم الذي يعول عليهم لإحداث التنمية والتطوير والتغيير سمة المجتمعات المتحضرة. ولكي يتم ذلك لا بد من إحداث الموازنة بتوافر متطلبات التعليم الجيد بدءاً من القائمين بالتعليم والبيئة التعليمية المحيطة إلى المظاهر الأخرى التي تسهم في إنجاحها.
      ما يحدث في واقع التعليم لدينا أن ليس كل من يرتاد الجامعة يضع نصب عينيه تلك الاهداف، اذ من الصعب ان تتوافر عناصر التعليم النموذجية من متعلمين وتدريسيين، إذا ما غضضنا النظر عن العناصر التعليمية البيئية الأخرى التي أصبح الحديث عنها أمراً غير مجد. يأتي الطلبة عموماً وهم في مرحلة الشباب على افتراض انهم وصلوا إلى مرحلة الاستقلالية النسبية في التفكير والأداء بعد مراحل سابقة كانوا خاضعين فيها إلى سلطة الأهل والمدرسة وما غرس فيهم من عادات واتجاهات وأنماط سلوكية مختلفة جعلتهم في الغالب يمثلون دور التابع لتلك السلطة المسؤولة والتي توفر لهم متطلباتهم الشخصية والاجتماعية حتى يصلوا إلى النضج العقلي والانفعالي والبدني بسلام، وهذا بدوره يتطلب التعامل مع هذه الفئة بطرق وأساليب جديدة تتناسب مع مرحلتهم العمرية وبيئتهم الجديدة. ورغم الاستقلالية المفترضة والتي عليهم ان يسلكوا بموجبها، إلا أن ذلك لا يحدث كثيراً، فالشائع في مجتمعنا أن الفرد يبقى اعتمادياً إلى أطول مدة من حياته، نراه عاجزاً عن التفكير الاستقلالي، الناقد، التحليلي، النظري .. وينعكس ذلك في مجالات حياته المختلفة الدراسية، المهنية، الأسرية… ربما نتيجة لأنماط التربية السلبية وسبل التعليم الجامد والنمطي. ومن البديهي أن نجد الكثير من الطلبة اعتماديون في اكتساب المعرفة أو لا يحبذون الاستزادة واشغال العقل بالتفكير والتحليل والاستدلال طالما أن النتيجة المرتقبة لا تخدم الميول ولا تحقق الطموحات. وما يساعد في هذه السلبية وجود الطرق والاساليب النمطية في التعليم التي يسودها الجامودة والخالية من التشويق ومستحثات التفكير ولا توفر ما يتحدى قابلياتهم العقلية. وقد يستند البعض في ذلك إلى مسوغات ليست خالية من الصحة، فالطلبة يقدمون من بيئات تشابهت نسبياً في العديد من مظاهرها ما يجعلهم متشابهين إلى حد ما في العديد من سماتهم العامة وربما في سماتهم الشخصية أيضا، وطالما تعودوا على طرق محددة في التعليم المدرسي مسبقاً، والذي ساهم في تحديد إمكاناتهم واستخدام قدراتهم، لذا فمن الصعب التعامل معهم على غير ذلك. مؤكد أن من الطلبة من يسندون هذا الادعاء ويوافقونه ولا يرغبون في طرق جديدة قد تكون عبئاً يفرض عليهم أن يكونوا محوراً في العملية التعليمية كما العبء الذي يعانيه التدريسي الذي يفرض ترغيبهم في تقبل تلك الطرق والتفاعل معها. ولكن من المؤكد أيضاً أن الطلبة يختلفون في سماتهم الشخصية، ونقصد وجود الفروق الفردية التي تبدو مظاهرها بوضوح أكثر في الجامعة. وعملية التعليم في جامعاتنا في كثير من الأحيان لا ترعي تلك التباينات العقلية بين الطلبة، وتتمسك بنفس الأنماط الكلاسيكية والمتبعة في المدرسة من تلقين وحفظ مما يساعد على الجمود الفكري وتحديد المعرفة.. فإن كان الكل متشابهون إلى حد ما في صفاتهم ومظاهرهم وما تفرضه بيئاتهم الاجتماعية والتعليمية المتقاربة، إلا أن الفرد لا يشبه أحداً فيما يمتلك من قدرات عقلية وخصائص شخصية موروثة، أو تلك التي صنعتها الخصوصية التي تمتاز بها كل أسرة ونمط التربية التي تتبعها وما تحمله من معتقدات واتجاهات وقيم وإن تشابهت في العموم مع الآخرين، مما يستوجب التعامل معهم على وفق هذا الأساس، فوجود تلك الفروق يجعل من الخطأ التعامل مع المتعلمين بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، وان كان الأغلبية يتقبلون طريقة محددة، فليس بالضرورة تكون مفيدة لتحقيق الهدف من عملية التعليم، فآراء الأغلبية ليست صائبة دائماً، ولا بأس في تقبل الأمر على أساس الاكتفاء بمستوى مناسب من التعليم الجامعي الذي يضمن إحداث الفرق بين طالب الجامعة وغيره من العامة بغية الحصول على أكبر عدد من المتعلمين والمثقفين معرفياً ومن الذين بإمكانهم تطبيق تلك المعرفة ولو بأدنى مستوى في ميادين الحياة عموماً، إلا أن ذلك إن كان يرضي البعض، فهو لا يرضي طموح الجميع، فهناك النخبة ممن قدموا إلى الجامعة بأهداف وطموحات علمية وإنسانية بحتة، فلا يتقبل هؤلاء تلك الأساليب الرتيبة في التعليم التي تحد من إمكاناتهم وبخاصة ممن تمثلت فيهم الاستقلالية بوضوح وهم يحاولون استغلالها في وقتها ومكانها المناسبين، وأولئك الذين لا يكتفون من المعرفة ولا يرضي حاجتهم إليها ما يطرح في محاضرات قد تكون هزيلة بالنسبة لهم وليست جديدة عليهم، ولا تضيف لهم شيئاً، فيعملوا على انتقادها أو التململ منها.
    قد يرى البعض في مبادرات الطلبة الواضحة في المشاركة الفاعلة في المحاضرات أو المساهمة في النشاطات أنها غرور وتبجح، أو محاولات لاثبات الذات على حساب الآخرين، ونقول الآخرين من الطلبة والتدريسيين. ومتى كانت معرفة الفرد لذاته وقدراته ومؤهلاته التي تجعله غير مستعد أو غير قادر على التفريط فيها غروراً ؟..، بل على العكس عندما يرى حاجة الآخرين للاستفادة منها فضلاً عن إثباتها والإحساس بها. ولدينا من الأمثلة والشواهد لأناس ليس من الصواب التغاضي عن مواقفهم التي أثبتت صحتها ومغزاها، ولنا في كتاب الله (عز وجل) في سير الصالحين من العبر الكثير، فليس قول نبي كريم عليم كيوسف(عليه السلام ) أن يمنح فرصة ليكون أمينا على خزائن الأرض (قال اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم..ولا نضيع أجر المحسنين)، وقوله (كرم الله وجهه) علي ابن أبي طالب (اسألوني قبل أن تفقدوني….) هم من عرفوا أنفسهم وأدركوا أنهم كفء للمسؤولية التي يأملوا أن تناط بهم ليقيموا ويستقيموا، ولإحداث التغيير، فالتغيير لا يحدث إلا بالتأمل بدءاً، والتساؤل بما لم يسبق من الأسئلة الكامنة المستحثة والتي نخشى عادة البحث فيها أو طرحها وليست تلك التي نحفظ اجاباتها او نتوقعها. أفلا يمنح أولئك الذين ينهجون ذلك النهج فرصتهم؟ أفلا يتوقف البعض منا عن منعهم وصدهم، وحتى معاداتهم في بعض الأحيان وإن كانوا أكفأ ؟ أفلا يكفينا ما يعاني بلدنا من تراجع وتقهقر في كل ما حولنا فنزيد الطين بلة مرة أخرى؟ وبدلاً من محاولات الوقوف بطريق هؤلاء أو تقمص الوجاهة كمظهر للحكمة بالتزام الصمت والتجهم بوجوههم كأحد الأساليب الشائعة للتهرب من المواجهة وتجنب الإحراج في حالة الجهل بما يطلبون من المعرفة، فمن الأفضل لنا كتدريسسن حتى في حالة الافتقار لما يمتلكون من مواهب وقدرات مرجوة الأخذ بأيديهم والسير معهم ودعمهم فنكون لهم عوناً وسنداً، ولنثبت أننا نؤدي رسالتنا الحقيقية بأمانة وتواضع، ونضمن احترام طلبتنا وعرفانهم لنا بدلاً من أن تنهال لعناتهم علينا.
        إن حال الجامعات يجعلنا نتأمل كثيراً ونأمل أكثر في إحداث التغييرات المناسبة للارتقاء بالتعليم، فلا بد من المراجعة بعد قراءة موسعة لحال التعليم فيها لإعادة النظر في النوعية التي تشمل عملية التدريس والقائمين عليها وان تطلب ذلك أجراء الاختبارات لتشخيص العناصر الكفوءة لدعمها وتكليفها بالمهام المناسبة عملاً بمبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فضلاً عن اختيار الأنسب من الطلبة لدعمهم وتشجيعهم للاستمرار بالتعلم، وتفريد التعليم بالاهتمام بالطالب كفرد لديه سمات وخصائص مميزة تتطلب طرق وأساليب مميزة ومناسبة لاثراء معرفته وتطوير قدراته وتشجيعه على الخلق والابداع، ولا نعني بذلك تجاهل الطلبة ممن لديهم قدرات عامة محدودة أو شائعة، فلكل حق ونصيب من العلم والمعرفة بقدر ما يرغب ويستطيع، ويعلمنا المعلم الأول (عز وجل ) أن نختار الصفوة ممن امتلكوا القدرات ومؤهلات الأداء لتكليف ما، ويعلمنا أيضا أن هناك من بينهم من ليس لديه رغبة ولا عزما، لذا فالتكليف يأتي على قدر الرغبة والعزم،( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) فضلاً عن المؤهلات والقدرات أو الإمكانات فـ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ). في حين قد نجد العزم والإرادة على الأداء لدى من نعتقد في تقديراتنا أنهم عاجزون أو غير قادرين ونفاجأ بإنجازاتهم، فقد يكون النقص الذي نعتقده بهم، وان وجد فعلاً دافعاً للأداء والإنجاز غير المتوقع منهم. لذا يخطأ البعض عند الحكم على الطلبة من مجرد السلوك الظاهر أو لجانب معين من شخصيته أو وضعه الاجتماعي…فيتوقع أن يكون أداءه الأكاديمي وكفاءته العلمية موازية لتلك المميزات، فيشاد بما ليس فيه، ويشجع على ما لا يرغب، ويمدح بما ليس له من خصال اكتسبها عن غيره، في حين يوجد من بينهم ممن لديه مواصفات الأكاديمي المطلوبة ويفتقر إلى غيرها فلا يجد التشجيع، ولسنا نبالغ إذا قلنا أن البعض منهم يتعرض للسخرية والتحقير والاتهام بتعويض النقص ليس من قبل مدرسيه فحسب بل من زملائه ممن لا يحبذون وجود المنافسين لهم، أو يمتازون عليهم بما ليس لديهم، وما أحسنه من اتهام ان صدق، فلا أروع من أن يعمل الإنسان على سد النقص وتزكية النفس بأسمى الأشياء. فنرى أن مثل هؤلاء أولى بالتعزيز والدعم من المثال الأول، وعلى العكس من ذلك فتضخيم الجوانب التي ليس لها علاقة بالعلم وأهله لدى بعض الطلبة والتي يستندون إليها في دراستهم واشغال المقاعد الدراسية في الجامعة التي يكون غيرهم أولى بها، إنما هو تضخيم للفراغ الذي يحملونه في عقولهم، وزيادة الاعتماديين والمتخلفين ليكونوا عبئاً على مجتمعهم.
    لسنا نأتي بجديد إذا ما قلنا أننا بحاجة إلى إعادة النظر من جديد، وأننا بحاجة إلى تطوير العملية التعليمية برمتها، فلسفة وتخطيط وكوادر وطرق وأدوات..نحن بحاجة إلى إرشاد يشمل جميع المعنيين بالتعليم من تدريسيين وطلبة ليعرف كل موقعه، إمكاناته، حقوقه وواجباته، فالعالم من حولنا أدرك الأهمية ووضع الأسس وعمل بها منذ عقود طويلة، وما زلنا نتحدث وما زلنا نؤكد، وهذا ما يجب أن يحدث ان كنا نعمل بحق لتحقيق أهداف الجامعة وأهدافنا في الحياة .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب