المشهد الأول: في العام 1975 وأنا في قاعة الامتحان النهائي للماجستير للسنة النظرية.. والأستاذ يوزع أوراق أسئلة الامتحان.. دخل أخي الصغير عيسى قاعة الامتحان بلا استئذان ومرتبك..ليخبرني بوفاة والدي تواً.. ذهلتُ.. ومن هول الصدمة.. بقيتُ واقفاً في مكاني..لم يشير لي أي من الأساتذة بشيْ..فأنا المتفوق الأول في دراستي.
ما العمل؟.. لابد من أن اترك الاختبار.. وخرجتُ.. وعند باب قاعة الاختبار.. سألتُ أخي: أين والدي الآن؟.. قال في المستشفى لاستلامه والعودة به الى البيت.. وإخواننا كلهم هناك.. وخلال ثوان تذكرتُ مواقف الكثير من الشخصيات والرموز العراقية والعالمية والمشاهير الذين مروا بمثل هذا الموقف.. في تلكً اللحظة قررتُ دخول قاعة الاختبار..فأنا لن استطيع بذهابي الى المستشفى.. أعادة أبي للحياة.. الذي أوصاني.. وشجعني.. وتابعني بإكمال دراستي العليا.. كما إنني لن أقدم أكثر مما سيقدمونه أخوتي الستة الحاضرون باتخاذ الإجراءات المناسبة في مثل هذا الموقف.. وهكذا قلتُ لأخي أذهب.. وأنا سألحقك خلال ساعة إن شاء الله.
دخلتُ الامتحان.. وكان الله معي في الشدائد دائماً.. وبسرعة فائقة.. وخلال 50 دقيقة أجبتُ على كل الأسئلة.. التي كان وقتها المحدد بثلاث ساعات.. وخرجتُ مسرعاً.. ركبتُ سيارتي.. وانطلقتً بحيث لم أبقي سيارة أمامي.. وصلت المستشفى لأجد أخوتي أكملوا مراسيم استلام جثمان والدي تواً.. وهكذا لم أتأخر.
بقيً أن أقول عندما ظهرت النتائج كنتُ الأول.. وبامتياز في اختبار نهاية السنة النظرية للماجستير.. فرضا الوالدين من رضا الله.. وأوفيت أبي بتنفيذ وصاياه بحصولي على أعلى الشهادات بامتياز.. وأن لا أوذي أحداً.
المشهد الثاني: في يوم مناقشتي لأطروحتي الدكتوراه.. ومنذ الصباح الباكر أخذت عناصر المخابرات ولدي الوحيد من بيننا.. وكان المفروض أن يؤدي هو امتحانه النهائي للماجستير في ذلك اليوم.. ليستكملوا الحالة باعتقال عشرة من شباب المنطقة.
لا أدري أين أخذوه؟.. ولا اعرف ماذا أعمل؟.. تذكرتُ صديقي جبار حمود “أبو عمار” رحمه الله.. هذا الرجل الذي ينطبق عليه المثل القائل: “تضعه على الجرح..يطيب”.. اتصلتُ به هاتفياً.. وقبلً أن أكلمهُ.. قال :”إنني خلال ربع ساعة سأكون في قاعة المناقشة”.. ذهبتُ للمناقشة.. وقلتُ لزوجتي وبناتي لا تخافوا على غزوان.. والله معنا”.
دخلتُ قاعة المناقشة.. وكنتُ شديد العصبية في إجاباتي على أسئلة واستفسارات أساتذتي المناقشين.. حتى إن الدكتور عبد السلام رؤوف.. أحد المناقشين سألني عندما انتهت المناقشة: ماذا بكً اليوم؟ حكيتُ له ما جرى.. صدمً الدكتور.. ولم يستطع أن يتكلم.
المهم: خرجتُ أنا والصديق أبو عمار.. وذهبنا الى بعض معارفه من الحزبين الكبار.. وبعض المسؤولين في الأمن والمخابرات.. وقابلتُ أنا الدكتور عبد الستار الراوي مدير المخابرات آنذاك..ووعدونا بأن لا يساء إليه أبداً.
وبعد تحرك متواصل فهمنا إن التهمة الموجهة إليه وأصحابه هي:”إنهم كانوا يصلون صلاة المغرب في جامع الرسول في المنطقة يومياً سويةً.. ويبقون بعض الوقت داخل الجامع بعد الصلاة”.. وكانوا متابعين من قبل عناصر الأمن.
تحركتُ بقوة.. وصرفتُ كل ما عندنا.. حتى سيارتي الأولدزموبيل الجديدة.. التي كنتُ قد اشتريتها قبل اعتقاله بيومين سلمتها هدية لإطلاق سراحه.. واحد وسبعون يوماً.. وأمه لم تغمض عينيها دقيقة واحدة منذ لحظة اعتقاله.. والحزنُ والمفاجأة أوقعها بجلطة.. وبمرض السكري والضغط.. الذين مازالا حتى الآن تعاني منهما.
بعد أن يأسنا إلا من رحمة الله.. قالت ليً أمه: غداً فجراً نذهب إلى كربلاء للزيارة.. وهنا تذكرتُ خبز العباس.. وأمام شباكه ناديته بقلبِ مفجوع على ابني الوحيد.. الذي قد يعدم بأية لحظة..وقلتُ: “سيدي أبا الفضل بجاهكً عند رسول الله.. وبشفاعة سيد الخلق عند ربِ ألعزة.. أن أجد ابني في البيت.. وخبزكً أوزعه بيدي لكل حينا”.. وانهمرت دموعي بغزارة المطر.. وعدنا من الزيارة الى البيت.. وإيماني بالله يزداد ثقةً بأن أبني سيطلق سراحه.
في ضحى اليوم التالي اتصلً ابني هاتفياً بنا من معتقل الحاكمية.. ليقول: “بابا تعال اعملي كفالة).. وفي الحاكمية سألت الضابط المسؤول.. فقال هذه الكفالة شخصية وروتينية.. وابنك وأصحابه خرجوا أبرياء….وهكذا أوفيتٌ نذري.
بقيً أن أقول كانت نتيجتي في الماجستير والدكتوراه.. الامتياز..مع التوصية بطبع الأطروحتين على نفقة الجامعة.