17 نوفمبر، 2024 5:22 م
Search
Close this search box.

فرجينا وولف .. نصف رواية متبقية

فرجينا وولف .. نصف رواية متبقية

لماذا ينتحر الكاتب ؟ لا جواب قطعي حتما ، انه سؤال العبث اليومي بتفاصيله المزمنة التي لا تنتهي .. فرجينا وولف ماتت منتحرة في نهر أوسي .. ألقت بجسمها المثقل بالأحجار وجيوب معطفها البني كان مليئا هو الآخر بأحجار الضفة المطلة على بيتها الريفي التابع لمنطقة سوسيك ذات المنظر الآخاذ ( مذكورة في روايتها رواية لم تكتب بعد 1921 )  .. ماتت الروائية التي أثرت الأدب الانجليزي وصارت احد أعمدته في العصر الحديث .. جثمت في القاع تسعة عشر يوما حتى عثر عليها بحالة يرثى لها .. انها فرجينا وولف صاحبة اسلوب تيار الوعي في الرواية الحديثة  .. لم تكن تعرف انها ستنتهي الى الانتحار ولم تفكر قط فيه ، لكنها أيقنت بان رحلتها كإنسانة لابد لها ان تنتهي مع ان رحلتها الروائية ما زالت في قمتها وحيويتها .. ظلت مخلصة للكتابة ومحبة للأدب ، كله ولم تفكر يوما بترك عشقها وهو كتابة الرواية مهما مرت بظروف قاسية .. عاشت فشلها في الحياة الأسرية كفتاة تحتاج الى رعاية الأم وحنانها وعاشت فقدانها لعطف وحب الاب الذي مات بعد أمها بفترة وجيزة وعاشت فقدان الإخوة حين توفي شقيقها المحب لها مبكرا .. ثم عاشت أبشع من هذا حين كانت تصحو كل صباح على أصوات القنابل النازية وهي تدك لندن في اسوأ فترات الحرب العالمية الثانية حينما خطط هتلر لإركاع الانجليز بالقصف غير المسبوق .. والأدهى انها عاشت فشل الحياة الأسرية حتى زواجها من ليونارد وولف عام 1912 الذي ادى حبه وحرصه عليها الى ترك العالم والاختفاء عنه للأبد . اذ ان زوجها ليونارد وولف الأديب وصاحب دار نشر معروفة في لندن ، غمرها بحب لم تعرفه طيلة حياتها فكانت تبكي لذاك الحب العظيم والعشق الذي تكتب عنه ولم تره .. انها مصيبة القدر ان تموت من اجل إسعاد حبيبها ، ولكي لا تزعجه بنوبات الصرع والجنون التي لازمتها ربع حياتها .. نوبات كانت تخفيها عن الناس ولكن الأمر قد افتضح ولم يعد أحدا لا يعرف .. انه قرار الموت اذن . عاشت فرجينا وولف حياتها بكل صخبها البيتي والأسري دون ان تعرف طعما لذلك ، ففجرت في نفسها طاقة كتابة لا مثيل لها وأبدعت أهم الروايات والقصص القصيرة والمقالات الأدبية . اما قرار الموت ، فكان اكثر القرارات هدوءا واتزانا في حياتها ، فهي لم تعطه وقتا كافيا ليدخل اليها ( الموت ) كما هو الحال عند الناس الآخرين . فله طريقته الخاصة . كانت السعادة التي دفعتها الى الانتحار ، سعادة استثنائية تماما ، لا السعادة التي تحطمت على جدران المرض الفضيع الذي التصق بها . المرض الذي كان يدفعها الى الصراخ في منتصف الليل وهي نائمة ، فما كان من زوجها الا ان يهرع الى الشارع الخالي مستنجدا ، انه يحاول ان يبطيء و يؤخر عنها الموت او قراره . ولكنه ظل يسمع صرخاتها وكأنها ستلقى حتفها من مصيبة ما ، تكتب رسالتها الأخيرة لزوجها وتغيب عنه الى الابد ( لا أظن باني سأتعافى من مرضي هذه المرة .. ) فيقرأ الزوج المحب والمعجب بالأديبة في آن ، رسالتها ويبكي ويذرف دموع الألم والندم ، الألم من فراقها كزوجة وأديبة بارعة لطالما أعجب بها وبفنها الروائي وشجعها على كتابة بعض الروايات التي يرجع الفضل له بانجازها كرواية ” السيدة دالواي ” التي أنجزتها عام 1925 ورواية ” أورلاندو ” المنجزة عام 1928 ، أما ندمه فشعوره بأنه لم يمنحها الحب والعطف الكافيين حسب اعتقاده . بينما تعترف فرجينا وولف في رسالتها الأخيرة لزوجها قبل الانتحار بدقائق ( لا اعتقد بان الحب والسعادة التي شعرنا بها نحن الاثنين سيشعر بها غيرنا ) انه اعتراف واضح بحب الرجل لها . انه الأديب والكاتب في الشؤون الاقتصادية في أشهر صحف لندن آنذاك وصاحب دار النشر المعروفة ، تزوج فرجينا وولف في عام 1912 وهي لم تكتب بعد أية رواية عدا بعض المقالات التي نشرتها في التايمز اللندية ومن ثم تحولت الى الكتابة في الملحق الأدبي لنفس الصحيفة . ويعتقد بعض الأدباء الانجليز بأنه احد الذين شجعوا وولف على الكتابة النقدية الأدبية بينما كانت تفكر في باكورة حياتها ، بان تصبح ناقدة فنية تتجول في قاعات الفنون التشكيلية . أصدرت كتبا نقدية مهمة في مسارات الأدب الانجليزي ولاقت اهتماما كبيرا في الأوساط الثقافية والأدبية وخاصة كتابها عن القاريء المهتم بالأدب أسمته ” القاريء العادي ” في عام 1925 وكتاب آخر ظهر بعد انتحارها عنوانه ” موت الفراشة ومقالات متنوعة أخرى  ” . اشتغلت فرجينا وولف بأسلوب جديد أطلق عليه بتيار الوعي او التداعي الحر وهو أسلوب عمل به بعض الكتاب المعاصرين لوولف وبدأت بكتابة رواية أرادت ان تبوح . وقد عرفت به باعتباره سيلغي السائد  في الأسلوب التقليدي . وتميزت أعمالها باستفزاز المشاعر الإنسانية ومداعبة الضمير الإنساني بقدرة روائية فذة . كتبت فرجينا وولف تسع روايات وصدر لها ثلاث كتب نقدية وواحد كتاب سيرة . وهكذا ماتت فرجينا وولف بعد ان ظلت جاثمة في باطن النهر تسعة عشر يوما بعد ان ملأت جيوب معطفها الجديد ( هدية عيد زواجها من ليونارد ) بالحجارة ودخلت النهر سيرا دون التفاتة الى الوراء !

أحدث المقالات